IMLebanon

أميركا… حين تتصدّع

«أميركا أولاً» التي يريدها الرئيس دونالد ترامب باتت عارية… لا المعايير الإنسانية والأخلاقية توحّد الأميركيين، ولا القيم الديموقراطية يمكن العهد الجديد الدفاع عنها فيما يندفع بطيش إلى معارك في الداخل والخارج، لن تجعل الولايات المتحدة أولاً، ولن تعيد هيبتها المفقودة في العالم.

صحيح أن الزعامات «العملاقة» باتت نادرة في الشرق والغرب، لكن الأكيد أن لهاث «الإمبراطور» ترامب لإثبات قدرته على قلب الطاولة، وإطاحة نخب سياسية «فاسدة»، وتنشيط الصفقات، يستعجل جرّ أميركا والأميركيين إلى هاوية مرعبة… واقتياد العالم رهينة للقلق كلما دشّن ترامب إحدى معاركه.

الأكثر إيلاماً أن الثمن لن تدفعه فقط قوة كانت وحدها عظمى، بل سيتقاسمه الأوروبيون والعرب، إذا تخيلنا أن روسيا المحصّنة بـ «غزوات» القيصر فلاديمير بوتين، والصين السائرة على خطوات الكرملين، الحليفة في خطف مجلس الأمن، ستتفرجان على تصدّع الولايات المتحدة بعد انسحابها من بؤر الصراعات الدولية، لملء المزيد من الفراغ المخيف في النظام العالمي.

أن تنجح موسكو في زعزعة ذاك النظام، شأن لم يعد مستجداً، الأخطر أن تتكامل جهود الكرملين والبيت الأبيض في محاصرة أوروبا بالضغوط، وفي إرباك الحلف الأطلسي الذي ما زال حائراً أمام الاندفاعة الروسية إلى قلب القارة. كان القيصر يقف على حدود أوروبا المتحالفة مع القوة العظمى، بات له حلفاء يعزفون على أوتار اليمين فيما بوتين يصفّق لهم، وهو «بطلهم».

الأكثر رعباً، أن يطمئن «الإمبراطور» إلى كلفة أحلام القيصر، وينصرف الأول إلى انقلابه – الزلزال الذي هز أميركا في عشرة أيام صاخبة… لإظهار قدرته على الحسم ومعاقبة المتمردين في الولايات المتحدة على قراراته.

بإجراءات الهجرة وتأشيرات السفر والتي تستهدف مسلمين، بدا ترامب كمن يقدّم أفضل هدية مجانية للديموقراطيين في الولايات المتحدة، ولشهية الكرملين المفتوحة على مزيد من التوغُّلات في منطقة كانت تعتبر تحت المجهر الأميركي، أو «رعايته». قدّم الرئيس «الخبير» في التجارة هدية للتيارات المتطرّفة في المنطقة العربية والتي استغلت الدين فيما هي تحطّم كل قيم العدالة والإنسانية وتشوّه مفاهيم الأديان، وتؤجّج الكراهية للآخر لشطبه، ولو بذبحه.

كلما تناسل التطرف بـ «داعش» وغيره، مدّد القيصر «حرباً على الإرهاب»، وعمّم نهج «الأنظمة الآمنة» لا المناطق الآمنة، برعاية ترسانته العسكرية. وكلما توغّل الروس في الخارج، اطمأن ترامب إلى تفرُّغه لمعاركه في الولايات المتحدة لـ «تأديب» الديموقراطيين والمتمردين.

أليس ذلك كافياً لتوطيد الإعجاب المتبادل بين القيصر و «الإمبراطور»؟

أكثر ما تخشاه أوروبا هو أعراض الدوافع الغامضة لدى الرئيس الأميركي للانقضاض على اتحادها، وفرط عقد الحدود المفتوحة، وتدمير سقف الحريات وجدار التكامل الأمني- الدفاعي. الأكثر خطورة أن بين الأميركيين مَنْ بات يخشى مصير وحدة ولاياته، وفيديراليتها إذا واصل سيد البيت الأبيض مفاجآته، ولم يكترث لحماية أجهزة الدولة دستورياً، بذريعة «نفِّذ أو ارحل» كما خاطب الديبلوماسيين المعترضين على مرسوم الهجرة.

وبافتراض مبالغة بعض الفرنسيين في مخاوفهم من أزمة اقتصادية عالمية، إذا أصر ترامب على سياسته الحمائية للتجارة الأميركية، يبقى التساؤل عن مصير أوروبا الذي يتخبط بين ضربات الإرهاب وتوغلات روسيا، ووهن اقتصادي مؤلم.

هي فوضى العالم، فيما يندر ما تبقى عملياً من ميثاق الأمم المتحدة، ومجلس الأمن في غيبوبة… تبدّلت التحالفات والخصومات، غابت معادلات شمال وجنوب، شرق وغرب. رعب العالم الآن ليس من حرب نووية، ولا من احتلال روسي لسورية، وفلتان ليبيا من أي فلك سياسي. القلق سيّده «الإمبراطور» وقد يشمت متطرفون بأميركا الكسيحة بانقساماتها، لكن النتائج كارثة والثمن لن يستثني إقليماً أو منطقة.