يجدر التوقف جيداً عند التحوُّل الواضح في الموقف الفرنسي من مجريات الحرب في غزة. فالرئيس إيمانويل ماكرون أصرّ على تظهير موقف أكثر توازناً هناك، وبدأ يرفع الصوت تصاعدياً، رفضاً للجرائم ضدّ المدنيين، ولو اضطره الأمر إلى التواصل مع نظيره الإسرائيلي محاولاً إزالة الالتباسات. وهذا الموقف له خلفياته السياسية أيضاً.
في نظر الفرنسيين أنّ الإدارة الأميركية تدفع بالأوروبيين إلى المواجهات الصعبة المفتوحة- وأوكرانيا أبرز النماذج- ثم تتركهم على قارعة الطريق، وتفتح أقنية اتصال جانبية مع الخصم. وفي لحظة معينة، يُفاجأ الأوروبيون بإبرام صفقة بين واشنطن وهذا الخصم، ويجدون أنفسهم مضطرين إلى الهرولة وراءها، لعلّهم يتداركون شيئاً من الأرباح، أو على الأقل يتجنّبون شيئاً من الخسائر.
وعندما نفّذت «حماس» عمليتها في 7 تشرين الأول، وأعلن الأميركيون النفير الشامل، سياسياً وعملانياً، إلى جانب إسرائيل، انجرف الأوروبيون في الموجة تماماً، وتجاوزوا تموضعهم التقليدي الأكثر توازناً بين إسرائيل والفلسطينيين.
ولكن، ظهر واضحاً أنّ الولايات المتحدة نفسها لم تعد في وارد التغطية على ما تفعله إسرائيل من عمليات تدمير وقتل للمدنيين، كما كانت في الأيام الأولى من الحرب، وأنّها بدأت تدفع بقوة نحو وقفها وإطلاق المسار السياسي.
وهذا التحوّل الأميركي مرده أولاً أنّ أحداً لا يستطيع تبرير القتل والترويع ضدّ المدنيين، خصوصاً إذا استمر لفترات طويلة، وثانياً هو أنّ خط الاتصالات المفتوح أساساً عبر قطر وعُمان، بين واشنطن وطهران، لم ينقطع على رغم حرب غزة، بل إنّه يشهد تطورات جديدة.
فخلف دخان الحرائق وغبار المعارك هناك، وافقت واشنطن على تحويل 10 مليارات دولار أخرى إلى إيران، بإعفاء العراق من تسديد ثمن الكهرباء التي يستوردها من جارته إيران. ويأتي هذا القرار بعد أسابيع قليلة من تحرير واشنطن مبلغ 6 مليارات دولار من أرصدة في كوريا الجنوبية، مقابل إطلاق رهائن وسجناء أميركيين كانوا في طهران.
الخارجية الأميركية برّرت تحرير مبلغ الـ 10 مليارات بالقول إنّ الإعفاء السابق الذي منحته الولايات المتحدة للعراق، انتهى قبل يومين، وكان لا بدّ من تجديده لمدة 4 أشهر أخرى. وفي أي حال، هذا الإعفاء الذي يحمل الرقم 21 منذ العام 2018، لا تستطيع طهران استخدام الأموال الناجمة عنه إلّا في معاملات الإنسانية.
ولكن، هناك ما أوحى بوجود خلفية سياسية لهذا القرار، في ذروة الحرب المندلعة في غزة، وحدود لبنان جزئياً.
فقد سُئل الناطق باسم الخارجية: هل ساهمت إيران في منع «حزب الله» من شنّ حرب شاملة على إسرائيل، فقال: «لن أتحدث عن الإجراءات التي اتخذتها إيران. ولكن، نحن من جهتنا، وجّهنا رسائل واضحة وقوية جداً، وبعثنا برسائل خاصة، وإذا لم يتمّ الإصغاء إليها فسنتحرّك».
وطبعاً، من الرسائل المقصودة هنا على الأرجح، تلك التي وجّهها عاموس هوكشتاين في زيارته المفاجئة والسريعة للبنان قبل أيام. فالرجل يستفيد من العلاقات التي نجح في إقامتها خلال مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، مع البيئة القريبة من «حزب الله» أو تلك التي يثق فيها، لتوجيه رسائل جديدة إليه، تتعلق بمسار الحرب في غزة وانعكاساتها في لبنان.
يقول ديبلوماسي خبير: الأميركيون هم أساتذة النهج البراغماتي في الممارسة السياسية. ولذلك، غالباً ما يتعرّض حلفاؤهم للصدمات. ولكن، أكثر فأكثر، يُظهِر الإيرانيون مستوى عالياً من البراغماتية يمنحهم كفاية التفاوض مع واشنطن.
لكن الفارق بين الطرفين هو أنّ لواشنطن فائضاً من الحلفاء وأشباه الحلفاء في الشرق الأوسط وأوروبا والعالم، ويمكن أن يقوم الأميركيون بالاستغناء عن بعضهم أو اجتذاب آخرين وفقاً للمقتضيات. وأما طهران فحلفاؤها محدودون ومحدّدون في الشرق الأوسط، وهم بمثابة أجنحة لها تشكّل إمبراطوريتها التوسعية. ولذلك، لا يمكنها أن تتخلّى عن أي منهم أو استبدالهم بآخرين. وهي تفاوض للحفاظ عليهم وضمان تفوقهم، من اليمن إلى العراق فسوريا ولبنان وغزة.
لذلك، الكلام الذي يتردّد في بعض الأوساط، ومفاده أنّ إيران أو «حزب الله» يمكن أن يبيعا «حماس» لا يمكن الاقتناع به. وفي المفاوضات التي تخوضها طهران مع واشنطن، هي تريد حماية حلفائها وتدعيم قوتهم. ومن الأمثلة أنّ إيران، عندما فاوضت واشنطن من خلال «حزب الله»، في ملف الترسيم البحري، كان هدفها منح «الحزب» فرصة الإمساك بالسلطة في لبنان، وتحكّمه بالقرار، وحصوله على مقدار هائل وطويل الأمد من التمويل، من خلال إشرافه على إدارة الثروة الغازية والبترولية لسنوات طويلة.
واليوم، إذ تجري طهران مفاوضاتها، في السرّ وبصمت كامل، مع «الشيطان الأكبر»، فإنّها بالتأكيد باتت تحجز موقعاً أقوى في تقرير مصير الشرق الأوسط. ولا مجال بعد اليوم لأي تسوية للملف الفلسطيني من دون الحصول على توقيعها، إلّا إذا خسرت حلفاءها، ولاسيما «حزب الله» و«حماس». وهذه الخسارة لا يمكن أن تسمح بها طهران أياً كان الثمن، لا في لبنان ولا في غزة.