في مقابل «الطحشة» الديبلوماسية التي شهدتها بيروت منذ مطلع السنة وحتى اليوم، تنشط الوفود اللبنانية من مختلف المستويات في واشنطن ونيويورك، بحثاً عن رؤية الادارة الاميركية والمجتمع الدولي في شأن ما يجري في لبنان والمنطقة، نتيجة تداعيات عملية «طوفان الأقصى» وما تسببت به من حروب «الإسناد والإلهاء والإنتقام» التي توزعت على أكثر من ساحة، وفي نطاق لم يكن متوقعاً من كلا طرفيها. وعليه، فقد توقف زوار واشنطن ونيويورك امام بعض الملاحظات، وهذه عينة منها.
بفارق ايام، وربما ساعات، كانت وفود لبنانية تدخل وتخرج من دوائر «البيت الابيض» والخارجية الأميركية ومقر الامم المتحدة في نيويورك، سعياً الى شرح ما يجري في لبنان في موازاة استقصاء المعلومات عن التوجّهات الاميركية في شأنها، على قاعدة انّها قد تولّت ادارة جزء من الحرب قبيل وبعد تشكيل «حكومة الوحدة الوطنية» في اسرائيل، وولادة حكومة «الحرب الرباعية المصغّرة». فالدول العربية ومعها عدد من دول العالم، باتت وفي اقل من اسبوع، على اقتناع تام بانغماس الإدارة الأميركية، منذ اللحظة الاولى من عملية «السيوف الحديدية» التي أطلقتها تل أبيب في مواجهة «طوفان الأقصى»، حتى أنّ بعضها بات يحمّلها مسؤولية الفشل في تمديد مجموعة «الهدن الانسانية» التي نُفّذت بمراحلها الأربع ولم تصل بعد الى وقف ثابت لإطلاق النار بفعل استخدامها حق النقض «الفيتو» الذي عطّل سلسلة من قرارات مجلس الأمن الدولي.
وعلى خلفية هذا الاقتناع الذي ترسّخ الى حدّ بعيد، ولم تغيّره المتغيّرات التي طرأت على السياسة الاميركية منذ اطلاق وزير خارجيتها أنتوني بلينكن لاءآته الثلاث من منصّة «مجموعة السبع» التي عقدت اجتماعها في اليابان بعد اسبوعين على الحرب، باستحالة استمرار الاحتلال الاسرائيلي للقطاع إن توغّل الجيش فيه ورفضه ضمّ أراض فلسطينية الى اسرائيل وإنهاء وجود حركة «حماس» فيه. لكن ما قامت به واشنطن في تلك الفترة عزز الشكوك باستحالة تحولها سريعاً «وسيطاً محايداً» قبل 10 ايام على التوغل البري في القطاع.
وعليه، فقد توجّهت الأنظارلإحصاء حجم المساعدات الاميركية العاجلة التي أمر بها الرئيس الاميركي جو بايدن، وما ترجمه طاقمه الوزاري الديبلوماسي والعسكري الذي يقوده وزيرا الخارجية والدفاع أنتوني بلينكن ولويد اوستن ومعهما قادة وضباط قيادة المنطقة الوسطى الاميركية. وهي عملية تزامنت مع دعم مماثل قدّمته دول اوروبية وغربية جنّدت له الجسور الجوية والبحرية التي امدّت «حكومة الحرب» بحاجاتها في الأسابيع الاولى للمعارك بكل انواع الأسلحة والصواريخ المتخصّصة بضرب الأنفاق والمواقع المحصّنة وعشرات الأطنان من قذائف الدبابات والمدفعية الثقيلة لسدّ النقص الذي تعاني منه تل أبيب نتيجة إمداداتها الكبيرة من هذه الأسلحة الى القيادة الاوكرانية قبل أيام من انفجار الوضع في المنطقة.
كان ذلك قبل ان تظهر بوادر التحوّلات الاميركية التي عادت الى لعب دور الوسيط الى جانب اكثر من دولة خليجية وعربية وغربية، بعدما ساهمت في ترتيب عمليات محدودة لتبادل الأسرى من اصحاب الجنسية المزدوجة لدى «حماس» واخواتها، بالمعتقلين في السجون الاسرائيلية على وقع مجموعة «الهدن الإنسانية»، بهدف تزويد القطاع المواد الطبية والغذائية والمحروقات، في خطوة لمعالجة مظاهر الكارثة الإنسانية التي تسبب بها الاستخدام المفرط للاسلحة والمجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين.
وانطلاقاً من ضرورة مواكبة التحولات الاميركية الجديدة، برزت اهمية زيارات الوفود اللبنانية لواشنطن ونيويورك، للإطلاع على الجديد المحتمل من الخطوات، وسعياً الى تجنيب لبنان مخاطر تطور الاوضاع الى حرب واسعة، وإمكان النفاذ باستحقاق انتخاب رئيس الجمهورية، مخافة ان يدفع غياب لبنان عن الساحة الدولية ثمن خلو سدّة الرئاسة في المفاوضات المقبلة. ولذلك، فقد كشف الزوار عن مجموعة من الملاحظات المهمّة التي توحي بانخراط اكبر للإدارة الاميركية في الساحة اللبنانية الداخلية انطلاقاً من مؤشرين:
– الاول، توسيع صلاحيات الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين، ليكون مكلّفاً ملف انتخاب الرئيس الى جانب مهمّته الاولى المرتبطة بتنفيذ القرار 1701 وفق قواعد تفصيلية جديدة لم يلحظها هذا القرار من قبل، مدخلاً الى تهدئة الوضع وتأكيد الحدود الدولية وتظهيرها وإنهاء الخلافات حول النقاط المتنازع عليها والتخلّص مما يسمّى «الخط الأزرق» كونه خطاً للانسحاب.
– الثاني، إنّ إعطاء السفيرة الاميركية الجديدة ليزا جونسون صفة «سفيرة فوق العادة» يسمح لها بحرّية التواصل مع البيت الأبيض مباشرة، بعيداً من الروتين الإداري متى دعت الحاجة للتعاطي مع هوكشتاين من دون القناة الروتينية عبر مكتب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط.
وبناءً على ما تقدّم، لمس زوار البيت الأبيض والكونغرس أهمية أن يتابع هوكشتاين نشاط الخماسية الدولية من أجل لبنان، ويسعى الى تزخيم عملها. فهو يدرك الحساسيات التي تتحكّم بعملها بعيداً من التسريبات التي قالت بمصادرة مهمّاتها او تجاوزها، وهو امر غير وارد. فواشنطن تنسّق مواقفها مع أعضاء اللجنة، قطر ومصر والسعودية، كشركاء لها في البحث عن حل للحرب والسعي الى «اليوم التالي» في القطاع، دون إغفال أدوارهم في الملف اللبناني. وإن تقدّمت قطر على بقية اعضاء الخماسية، فإنّ باريس تبدو أكثر نشاطاً.
فإلى ما يقوم به الموفد الرئاسي جان أيف لودريان، أطلق وزير الخارجية الفرنسي الجديد ستيفان سيجورنيه مبادرته الأخيرة، وترك في بيروت وفداً ديبلوماسياً وعسكرياً لمناقشة الاقتراحات التفصيلية التي وضعها بالتنسيق مع الجانب الأميركي، بمعزل عن النتائج المترتبة على مصيرها رفضاً او قبولًا. ذلك انّ رفضها المحتمل من جانب «حزب الله» يعني أنّ الجانب اللبناني الذي يغطّي الحزب، ينتظر ما يسمعه من الأميركي مباشرة، وهو ما سيحصل متى عاد هوكشتاين إلى بيروت في موعد قريب، قد لا يتعدى نهاية الشهر الجاري، كما كشف احد اعضاء الكونغرس لزواره اللبنانيين.
والى الهمّ الأمني والعسكري اللبناني، لمس زوار واشنطن ونيويورك اصراراً اميركياً على عدم التدخّل في الأسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية، بعد الصدمة التي تسببت بها المبادرة الفرنسية في خطواتها الأولى قبل التراجع عنها. وإن سأل البعض عن مزايا قائد الجيش العماد جوزف عون ومؤهلاته، كان يصرّ على أنّ ذلك هو على سبيل الاستفتاء ليس اكثر، ومن باب التأكيد الإضافي لوجود قرار لا نقاش فيه لجهة دعم الجيش والقوى الأمنية الاخرى.
والى هذه الملاحظات، فهم الزوار انّ الادارة الاميركية لا تأبه لأسلحة أذرع إيران في المنطقة، ولا تعطيها حجماً فائضاً، وترغب في تعطيل مفاعيلها من العراق الى سوريا ولبنان واليمن. وإنّ مثل هذه التوجّهات تحرّم على الادارة الاميركية عقد اي اتفاقيات جانبية على حساب «المعارضة السيادية» في لبنان. فمثل هذه التقديرات لا مكان لها في خيارات الإدارة الاميركية، من باب الحرص على التوازنات الداخلية التي تحمي وحدة لبنان على خلفية رفضها ما سمّاه البعض «عسكرة الاديان»، وتوفّر عودته الى الساحة الدولية بكل مؤسساته الدستورية بعد التعافي من أزماته. وينتهي بعضهم الى القول إنّ لا ورقة تعني لبنان من ضمن اي اتفاق في شأن الملف الايراني او اي خطوة اقليمية، وانّ التسويق في هذا الاتجاه لا مكان له في عقل اي مسؤول اميركي.