أن تعمد واشنطن إلى إرسال أسلحة وذخائر الى إسرائيل تتجاوز قيمتها المليار دولار أميركي، وفي هذا التوقيت بالذات، وبعد صراع سياسي عنيف حول رفح، فإنّ هذا يعني بأنّ الإدارة الأميركية وافقت على قيام إسرائيل بعملية عسكرية تطال عمق رفح، ولكن وفق شروط جرى تحديدها مسبقاً.
ففي الأروقة الديبلوماسية همس بأنّ وزارة الدفاع الأميركية تفاهمت مع القيادة العسكرية الاسرائيلية على تنفيذ العملية العسكرية بغية تفكيك الجناح العسكري لحركة «حماس»، ولكن بشكل مركّز تحاشياً لسقوط ضحايا مدنيين، وهو ما جعل الرأي العام الأميركي يثور على الإدارة الأميركية رفضاً للمجازر التي حصلت بسلاح أميركي. وتروي الأوساط الديبلوماسية، بأنّه جرى التفاهم على تقسيم رفح الى أقسام عدة، بحيث أنّه يجري إفراغ كل قسم من المدنيين قبل اقتحامه. وسُجّل حتى الآن خروج ما يوازي 700 ألف فلسطيني من رفح. ووفق الأوساط نفسها، فإنّ خطة الهجوم شارك في وضعها ضباط أميركيون خدموا في العراق وشاركوا في معركة الموصل وحملوا معهم الدروس والخلاصات منها. مع الإشارة الى استمرار وجود ضابطين أميركيين كبيرين داخل غرفة العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ بدء الحرب في غزة.
وتزامن هذا التطور مع بدء نشاط المرفأ الموقت الذي أنشأه الجيش الأميركي، والذي يربط بين قبرص وشاطئ غزة، بهدف إدخال المساعدات الى الفلسطينيين. وهذا التزامن قد لا يكون مصادفة، لا بل على العكس قد يكون مقصوداً ومكمّلاً لعملية رفح.
في الواقع، ثمة إشارات وإيحاءات أميركية عديدة تؤشر إلى قرب انتهاء الحرب المفتوحة على غزة، وبالتالي بدء التحضير لليوم التالي وترتيباته السياسية الكبيرة، رغم أن لا أحد يجرؤ على تحديد المدة الزمنية التي ستستهلكها معركة رفح، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يبدو وكأنّه يراهن على استهلاك المزيد من الوقت لحرمان الرئيس الأميركي جو بايدن من أوراق رابحة في الشرق الأوسط، ما سيمنعه من استثمارها في حملته الإنتخابية.
مقررات القمة العربية التي انعقدت في البحرين تحدثت عن «اليوم التالي» لغزة. وهذه المقررات التي من المفترض أن تكون قد دُرست مسبقاً مع الحليف الأميركي، تعطي إشارة حول قرب انتهاء الحرب، والمقصود هنا أسابيع وليس أشهراً.
وثمة إشارة ثانية تتعلق بالكشف عن المفاوضات غير المباشرة الدائرة بين واشنطن وطهران في سلطنة عمان، والتي أشار موقع «أكسيوس» الى أنّها بحثت في الملف النووي الإيراني، مع ما يعني ذلك التطرّق الى رفع العقوبات المفروضة على إيران، والأهم ما ذُكر للمرّة الأولى بأنّها بحثت في الوضع في المنطقة وطالت «وكلاء» إيران، كما جاء في الخبر.
وهذا الخبر الذي أكّدته البعثة الإيرانية في نيويورك يؤشر ضمناً إلى تفاهمات تحاكي خارطة النفوذ السياسي في المنطقة للمرحلة المقبلة، مع العلم أنّ إيران كانت تصرّ دائماً في السابق على موقفها بعدم التفاوض سوى على الملف النووي.
والإشارة الثالثة تلك المتعلقة بالزيارات الأميركية الرفيعة والمتلاحقة إلى السعودية، والتي تشي بقرب إنجاز تفاهم كبير وفي العمق بين واشنطن والرياض، ويشكّل «حل الدولتين» مدخلاً له.
أما الإشارة الرابعة، فهي تتعلق ببدء السلطات العراقية سحب جوازات السفر من شخصيات كردية إيرانية معارضة لطهران، وهي تقيم في العراق. ويأتي ذلك بعدما جرى منذ بضعة أسابيع إزالة مراكز التنظيمات الكردية الإيرانية المعارضة عن الحدود العراقية- الإيرانية، حيث جرى نقلها الى مناطق بعيدة جداً من الأراضي الإيرانية. وهو ما يعني اتخاذ الخطوات العملانية التي تضمن عدم «العبث» بالإستقرار الداخلي الإيراني. ولا شك أنّ لواشنطن بصماتها الواضحة في حصول هذه الإجراءات.
كذلك كان لافتاً أنّ تركيا، صاحبة الحضور المتصاعد في المنطقة، باشرت ببناء قاعدة عسكرية جديدة في شمال العراق، وسط صمت معبّر للحكومة العراقية. هذا مع التذكير بالزيارة التي قام بها رئيس الحكومة العراقية الى واشنطن، إضافة الى الزيارة المعبّرة التي كان الرئيس التركي قد قام بها الى بغداد الشهر الماضي.
كل ما سبق يؤشر إلى وجود ترتيبات ناشطة لإعادة صياغة ساحات النفوذ في الشرق الأوسط، والتي من المفترض أن يجري تكريسها في مؤتمر دولي، ينتظر الدعوة لإنعقاده انتهاء الحرب الدائرة في غزة، إما عسكرياً أو سياسياً أو مزيجاً بين الاثنين، وهو الاحتمال الأكثر ترجيحاً.
ولبنان بدوره يخضع لهذا التوقيت الصعب. وواشنطن التي تراقب من كثب التطورات الحاصلة في جنوب لبنان، بدت مطمئنة إلى أنّ الأوضاع لن تتدحرج باتجاه الحرب المفتوحة. فكيف لذلك أن يحصل في وقت تبدو التفاهمات ناشطة في الكواليس؟
وخلال العشاء الذي أقامته مجموعة «التاسك فورس من أجل لبنان» بدا الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين متفائلاً في الكلمة التي ألقاها حول إمكانية التوصل الى حل في جنوب لبنان. ولهوكستين معرفة واسعة في التعقيدات اللبنانية والإسرائيلية، خبرها خصوصاً خلال مفاوضات الترسيم البحري منذ أقل من سنتين. ما يعني أنّه «لا يسكر على زبيبة» كما يقول المثل الشائع. أغلب الظن أنّه أنجز خلال المرحلة الماضية معظم النقاط الشائكة لملف الجنوب اللبناني من خلال تواصله غير المعلن مع الرئيس نبيه بري، وهو يجلس منتظراً إنتهاء الحرب في غزة، والذي يوحي كلامه بأنّها لم تعد بعيدة.
ورفع «حزب الله» لمستوى الحماوة في «الحرب المضبوطة» الدائرة، له تفسيره الإيجابي لا السلبي. صحيح أنّه يُدخل اسلحة جديدة وتكتيكات متطورة إلّا أنّه في الوقت نفسه ملتزم بعدم دفع الوضع الى حال الحرب المفتوحة. ما يعني أنّ التفاهمات السياسية الكبرى في المنطقة باتت مستعدة لتوسيع هامش المواجهات الحاصلة من دون الإنزلاق الى أتون الحرب المفتوحة. أي أنّ التصعيد الحاصل بهدف إبراز العضلات وإثبات القدرة، يبقى تصعيداً مدروساً وتحت السقف السياسي المستجد، وهو لا يشكّل تجاوزاً للخطوط الحمر.
وهنا أيضاً إشارة إضافية الى أنّ الأفق لم يعد بعيداً. فحتى التعليمات التي أعطتها واشنطن لسفيرتها في بيروت اختلفت عن السابق، وباتت تتضمن حثاً على التحرك بقوة أكبر لتجهيز الملف الرئاسي اللبناني ليصبح جاهزاً.
فغداة عودتها من زيارة الأسابيع الثلاثة الى واشنطن، بادرت السفيرة ليزا جونسون إلى توجيه إشارات واضحة بأنّها باتت معنية أكثر بضرورة إنجاز الملف الرئاسي، بعدما كان سلوكها طوال المرحلة الماضية يتسمّ بالبرودة.
ورغم أنّ اجتماع سفراء الخماسية في عوكر لم يدم أكثر من ثلث ساعة، إلّا أنّ البيان الصادر حمل مفردات جديدة وروحية مختلفة وزخماً واضحاً.
صحيح أنّ «الخماسية» تبدي رفضها للربط بين الرئاسة والحرب الدائرة، وأنّ «حزب الله» هو أيضاً يعلن عدم تأييده لهذا الربط، لكن جميع الفرقاء يدركون ضمناً أنّ الربط قائم وهو متين، وأنّ ظهور الحلول سيلي وقف إطلاق النار. ولأنّ الحماسة غلبت على سلوك جونسون بعد عودتها، فهذا يدفع للإستنتاج بأنّ أجواء واشنطن تراهن على إغلاق ملف حرب غزة قريباً، ولو من دون تحديد موعد أو كيفية طي صفحة الحرب.
في الأروقة الديبلوماسية يكثر الهمس عن شهري حزيران وتموز، لكن لا أحد مستعداً لالتزام هذه المواعيد علناً وبشكل صريح.
لكن ثمة ما هو لافت جداً، ويتعلق باستدعاء السفيرة الأميركية الى واشنطن من جديد، على الرغم من مضي حوالى الأسبوعين فقط من تاريخ عودتها. وتردّد بأنّ جونسون ستجتمع مع رؤسائها في وزارة الخارجية إضافة الى مسؤولين مولجين بمتابعة ملفات لبنان والمنطقة في أدارات مختلفة، مثل الأمن القومي على سبيل المثال.
وهذا ما يعزز الإنطباع بأنّ الأسابيع المقبلة قد تشهد تطورات كبرى، خصوصاً أنّ الوقت أصبح ضاغطاً على الإدارة الأميركية بسبب الحملات الإنتخابية الحامية والمحشورة. لكن العقبة التي تقف أمام مسار الحلول هي باستمرار الحرب في غزة، أضف الى ذلك إمكانية هروب نتنياهو من الضغوط الداخلية التي يتعّرض لها، بمزيد من التصعيد واستهلاك الوقت، وهو ما يضع كل التحضيرات الجارية في مهبّ الريح.