منذ اللحظة الأولى لعملية «طوفان الأقصى» كانت حاملة الطائرات الاميركية «جيرالد فورد» الأقرب الى حوض البحر المتوسط فدخلته، ومعها طرحت الأسئلة عن مهمتها. ولمّا تم تعزيز قاعدة الظفرة في الإمارات العربية المتحدة بطائرات «إيه – 10» الاستراتيجية كَبرت الهواجس. ولمّا أطلّت الصواريخ البالستية والمسيرات من اليمن وجاء التصدي لها، جاء موعد الاجوبة عليها. وعليه، هل أضافت الهجمات على المواقع الاميركية في العراق وسوريا شيئاً لتوضيح المشهد المتوقع؟
عندما عبرت مراجع ديبلوماسية وعسكرية عن اقتناعها بأنّ التحركات العسكرية الاميركية في الساعات الأولى لعملية «طوفان الاقصى» لم تكن بهدف مواجهة ما جرى في غزة والاجتياح الحمساوي لغلافها وأبعَد منه بقليل فحسب بل تتجاوز ما حلّ فيها الى ما هو أبعد بكثير. فما جرى في تلك اللحظة يمكن تطويقه لمجرد القدرة على تجاوز الصدمة التي أحدثتها العملية الصاعقة لإعادة الوضع الى ما كان عليه. فانتقال حاملة الطائرات «يو آس آس جيرالد آر فورد» إلى شرق المتوسط ومعها مجموعة المدمرات والغواضات والطرادات تزامناً مع تعزيز قواعدها في الخليج العربي ما بين مضيقي باب المندب وهرمز هدفت الى إكمال الطوق البحري والجوي الأميركي حول منطقتي الخليج والشرق الاوسط بكاملها كخطوة استباقية تتجاوز القدرات الإسرائيلية وتمهّد للمحطات المقبلة لأيّ حرب ما بعد بعد حرب غزة.
ولكن، لم تتوقف التطورات العسكرية عند هذه المحطة، فعلى وَقع الخرق الذي حققته حماس بتجاوز البوابات الحديد والجدار الاسمنتي المفروض على غزة ومعه الطوق العسكري والالكتروني، تحرّكت الآلة الجوية التدميرية في سلاح الجو الاسرائيلي ومعها ما جمعه الجيش من وحدات عسكرية من القوى النظامية وضباط وجنود الاحتياط لاستعادة السيطرة على مجموعة الكيبوتزات والمستوطنات الإسرائيلية المخترقة لتزيد من حدة المواجهة غير المسبوقة وغير المتوقعة. فهي أوحَت بلا شك أنها كانت من أسوأ العمليات العسكرية التي واجهها طرفا المواجهة والاكثر دموية في تاريخ النزاع بينهما بمعزل عن التوقعات التي سبقت انطلاقها وما حملته من مفاجآت على مستوى الطرفين.
ففي الوقت الذي لم تكن قيادة حماس تتوقع أن تصل عمليات الإختراق الى ما بلغته في عمق الاراضي المحتلة من دون اي مقاومة تذكر في الساعات الاولى للعملية، اعترف الجيش الاسرائيلي بصراحة انّ ما ذاقته الحكومة ومعها القيادة العسكرية وأجهزتها الاستخبارية لم تشهد له مثيلاً في اي حرب سابقة لا مع الفلسطينيين ولا مع الدول العربية. حتى انّ البعض ردّها الى زمن «الهولوكوست» فيما سارعَ آخرون الى تشبيهها بأحداث 11 ايلول في نيويورك لإثارة الرأي العام الأميركي وتبرير مواقف قادتهم. وقد كان كافياً أن تعترف اسرائيل بأنّ المواجهات دارت في الساعات الأولى في أكثر من 22 نقطة مع المجموعات المسلحة بما فيها من مواقع عسكرية وثكن ومراكز للشرطة تم احتلالها لبعض الوقت بعد أسر ضبّاطها وجنودها وعسكرييها.
وقياساً على تلك التطورات وما تسببت به من مفاجآت، كبرت الهواجس من ردات الفعل الدولية لمساندة اسرائيل ولا سيما الاميركية منها. فإلى الجسر الجوي الطبيعي الذي فتح بين قواعدها في المنطقة والعالم لتزويد اسرائيل الاسلحة والذخائر، فقد تعدّدت الآراء في شأن تفسير التحركات الاميركية البحرية منها في المتوسط والجوية في الخليج سعياً الى فهم ما قصدته منها، فأجمعَت على القول انّ واشنطن تخطّت ساحة المعركة المحصورة بالاراضي الفلسطينية المحتلة لتشمل المنطقة بكاملها من حدود الخليج الممتدة من ايران ومضيق هرمز الى اليمن وباب المندب، ومن شرق المتوسط الى عمق المنطقة بما فيها دول الجوار الاسرائيلي الممتد من العراق وسوريا ولبنان والاردن الى مصر، في خطوة استباقية للاشارة الى انّ واشنطن لا ترى في الذي حصل في غزة مجرد مواجهة بين الجيش الاسرائيلي ومنظمة مسلحة لتحمّل المسؤولية الى كل من ادّعى او تورّط فيها من خلال دعم «حماس» وحلفائها. وهم ينتشرون على مساحة المنطقة التي طوقتها التدابير البحرية والجوية الاميركية الحديثة، ومنها ضمناً «الجيوش الايرانية الخمسة» التي قال الحرس الثوري الإيراني يوماً انه أنشأها في الدول العربية الخمسة.
وقبل أي اعتراف أميركي رسمي بما يتصل بالمهمة التي كلّفت بها القيادة الوسطى للجيش الأميركي، جاءت صواريخ الحوثيين الباليستية التي انطلقت بعد ظهر أمس الأول الخميس من منطقة «عبس» في محافظة حجة شمالي اليمن، والطائرات المسيرة من مديرية اللحية في الحديدة غرب اليمن لتؤكد صحة القراءات التي قالت انّ مهمة هذه الاسلحة الأميركية العابرة للقارات والدول تشمل تلك المنطقة وتضمها الى حرب غزة. فلا يعني ـ وبحسب خبير عسكري بارز ـ إن تصَدّت المدمرة «يو إس إس كارني» للصواريخ اليمنية من البحر الاحمر انّ الأمر منفصل عما يجري في غزة، فتلك المدمرة من القطع التابعة للاسطول الاميركي عينه المنتشر في البحر المتوسط.
وإن دخل الخبير في تفاصيل ما جرى، فهو لا يرى أن هناك موجباً للبحث اذا كانت الصواريخ اليمنية تستهدف المدمّرة عينها او الاراضي الفلسطينية المحتلة او اي منطقة اخرى، فهذه المناطق باتت في عمق المنطقة المُلتهبة التي وضعت تحت المجهر الاميركي كبقعة واحدة محتملة لأيّ مواجهة شاملة لتعطيها الهدف والمعنى عينه. وما يثبت ذلك انّ وزارة الخارجية الاميركية التي ناشَدت مواطنيها في لبنان الاستعداد لمغادرته لم يكن قرارها محصوراً بلبنان، وهو في اطار «تدبير عالمي» اتخذته استباقاً لأي احتمال ان يتعرض مواطنوها وسفاراتها وقواعدها العسكرية للاعتداء او لعمليات ارهابية في أي بقعة في العالم فلا تقف الأمور عند حدود الدول المعنية بحرب غزة مباشرة.
ولإثبات صحة هذه النظرية، فقد تزامَن البيان الاميركي الخاص بمغادرة مواطنيهم مناطق النزاع على خلفياته الدولية، مع الأنباء التي تحدثت عن حرب المسيرات والصواريخ التي استهدفت قاعدة «عين الاسد» الاميركية في العراق والمنشآت العسكرية في قاعدة عسكرية أخرى تستضيف قوات أميركية قرب مطار بغداد الدولي، كما في قاعدة التنف عند مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ الاردنية وفي مواقع اخرى في مناطق شرق نهر الفرات حيث تنتشر حقول النفط السورية التي تضع يدها عليها.
وبناء على كل ما تقدم، فقد بات واضحاً انّ الترسانة البحرية والجوية الاميركية التي نقلت الى هذه المناطق قد بدأت بتنفيذ المهمات الموكلة إليها في انتظار معرفة ما سيكون عليه الوضع اذا نشرت واشنطن وحدات برية في اسرائيل او في اي منطقة اخرى على مساحة المواجهة المفتوحة على شتى الاحتمالات. فالمعلومات الاستخبارية تتحدث عن أكثر من احتمال، وهي في معظمها تُحاكي حرباً واسعة في المنطقة.
وختاماً، يبدو للمراقبين انّ ما يحاك للمنطقة والعالم سيكون مظهرا غير مسبوق لم تعرفه من قبل. ومن الطبيعي عندها ان تصدق التوقعات التي تتحدث عن تغيير وجه المنطقة فتصغر معها المواجهات المحدودة على هذا المحور او ذاك. وكل ذلك قد يكون بات على قاب قوسين او ادنى من أن نعيشه، ما لم تنجح الديبلوماسية الدولية في تظهير ما يمكن ان يؤدي الى وقف عمل الآلة العسكرية التدميرية في غزة وتجنيب لبنان والمنطقة حرباً سيسجّل تاريخ الطلقة الاولى منها ولا تعرف ما ستكون عليه نتائجها.