ذهب البعض، عند بداية الدخول الجوي الروسي على خط دعم تقدّم النظام، إلى الحديث عن أفغانستان ثانية ستكون في انتظار المتدخل «الجديد»، وتوعّد بعض آخر هذا المتدخل بهزيمة قاسية تلحقه بهزائم النظام السوري المتوالية، وتعلّق طيف من السياسيين والمعلقين والمتابعين، بحبل نجاة الخطوط الحمر الأميركية، ما كان منها مرسوماً قبل المباشرة الروسية بتكثيف الغارات الجوية، وما سيرافق سير عملياتها، أي أن هذا الطيف المتابع بتفـاؤل، افتـرض وجود قيود مسبقة على الحركة، وأن هذه القيود مفهومة المضامين والأحكام، وأن الفهم الروسي لذلك، شكّل الإجازة له ليكون لاعباً أساسياً فوق المسرح السوري.
تداعيات التطورات المتلاحقة جاءت لتبطل أسس فرضيات عديدة. لم تكن سورية مرشحة لأن تكون أفغانستان ثانية، ولن تكون ساحة «جهاد عالمي» يرتادها مقاتلون «أمميون» إسلاميون، ولن يتولى أحد من المعنيين بمحاربة الشيوعية العالمية تمويل هذه المعركة، ولن تقاتل الولايات المتحدة الأميركية نقيضها «الاتحاد السوفياتي»، وما من حرب باردة تدار معاركها بالواسطة، فوق أراضٍ بعيدة، وبواسطة شعوب متناحرة متعدّدة. ذلك كله يعاكس أحكام الطور السياسي الذي يلف دول القرار البعيدة، ودول الالتحاق القريبة. ببساطة، زال الاتحاد السوفياتي ولحقت به منظومة دولة، وصارت إلى التاريخ كل تجربته، وأما ما مكث منها فسياسات ارتبطت بأشخاص من آلت إليهم مقاليد الأمور، هؤلاء الذين من بينهم اليوم فلاديمير بوتين، الذي بات صاحب حقبة سياسية تنتمي إلى اسمه.
في السياق ذاته، لم تكن الولايات المتحدة الأميركية في سورية، إلا الدولة التي رسم حدود سياستها الخارجية رئيسها الحالي، باراك أوباما، ولم يعد خافياً أن الأساسي من تلك السياسة يقوم على حفظ المصالح العليا الأميركية، وحفظ مقومات الأمن القومي، من خلال سحب اليد من النار المباشرة، وإدارة خيوط المكاسب والموارد بواسطة سياسات بديلة، يلتقي فيها الشيء وعكسه، مما لا يصير مفهوماً بالنسبة الى الدول الصديقة للولايات المتحدة الأميركية، وبما يجعل هذه الدول ضحية سوء الفهم هذا، بحيث تدفع ثمن تأخرها عن التقاط الإشارات الأميركية الجديدة، من مواردها وأمنها واستقرارها ومن مصيرها السياسي، الذي يطاول الأوطان والمواطنين على حدٍّ سواء.
لقد انتقلت روسيا إلى سياسة «المابعد» سوفياتية، وكان انتقالها عسيراً، فلم تغب عن مجرياته سياسات المهانة التي اعتمدت ضدها، بعد انهيار النظام الشمولي الحاكم فيها، مثلما كانت حاضرة سياسات الإقصاء والتهميش التي استهدفت موقعها الدولي الذي كان لها، من خلال شلِّه وتحييده ودفعه إلى صفوف المراقبين الخلفية. روسيا، يساعدها توازن الوضع الدولي العام الجديد، تمارس انتقالاً على طريقتها، أي أنها تلملم أشتات صورتها التي كانت لها بعد انهيارها كمركز للنظام السوفياتي، وتعيد رسم صورة حديثة لها، فيها من موروث القوة، وفيها من موروث الطموح إلى الوصول إلى المياه الدافئة، طموح رافق قياصرتها من بطرس الأكبر إلى كاترين الثانية إلى… لينين».
الولايات المتحدة الأميركية، انتقلت أيضاً إلى سياسة المابعد «البوشية»، وما كان نصراً ساحقاً افتراضياً على الإرهاب في مركزه الأفغاني، وعلى «الشر» في مركزه العراقي، عاد ليتجلى في صيغة فشل سياسي استراتيجي تشهد عليه الحرائق الإرهابية المتنقلة، مثلما تدل على تقهقره وإخفاقه، عمليات التدمير والقتل والاقتلاع التي تعيش في أتونها بلدان عربية عدة.
إذاً، تشترك السياستان الأميركية والروسية في صيغة «المابعد»، وتفترقان في الأسباب التي أوصلت إلى هذه الصيغة، فإذا كان أصل السياسة الأميركية انتصاراً آنياً، عاد ليصير فشلاً لاحقاً، فإن أصل السياسة الروسية فشل تجربة سياسية، يسعى ورثتها الى الانتقال منها إلى انتصار جديد. لا يبدو الهدفان متعارضين، ذلك أن القطبين يدركان جيداً حدود المسموح والممنوع استراتيجياً، ويدركان جيداً، أن ما يدور تحت سقف المسموح العام، يمكن غض النظر عنه في الميدان، والعودة إلى التفاهم على حدود الإفادة منه، عندما يحين موعد توزيع «العوائد» المصلحية.
سورية اليوم، ميدان للتجربة ما بعد الروسية والأميركية، وفرضية التجربة لدى الطرفين ليست مكتملة المعطيات، أي أنها لا تتم وفق معادلة «كيماوية» معلومة، لذلك فإن السمة العامة لسياسات المابعد، ما زالت محكومة بفرضية «التعلم»، هذا التعلم يجري تحصيله أميركياً وروسياً من خلال التجربة والخطأ، وتقرير الخطوة اللاحقة تدفع ثمنه الشعوب العربية، التي هي الآن مادة الدرس، وهي المعنية دائماً بأن تخضع لعملية تعليم شرطي، بحيث إذا ضربت على أقدامها أحنت رؤوسها، وإذا رفعت أعناقها كانت سيوف الجلادين في انتظارها، سيوف القتلة الآتين من التاريخ، والقتلة الآتين على أجنحة الطيران الحربي المعولم.