تزامناً مع التداول بالمخاوف من توسّع الحرب، برزت مجموعة معطيات شجّعت دولاً عدة على حظر سفر مواطنيها إلى لبنان وتركه ما لم يكن لهم دواعٍ تستحق المخاطرة. وكل ذلك يجري على وقع مضمون تقارير ديبلوماسية قالت انّ رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو لم يعد لديه ما يخسره، وسيرتد بعد خفض الضغط في رفح إلى لبنان، ولم يعد له ما يمدّه في موقعه سوى صوت المدافع. وعليه، ما الذي يقود إلى هذا السيناريو؟
لم يعد هناك ما هو مستغرب من أحداث، ومهما كانت سخيفة فإنّها كفيلة بأن تؤدي الى ما يعزز الخلافات بين نتنياهو مع عدد من رفاقه قياديي «حزب الليكود» ومعهم أعضاء حكومته الموسّعة، بعد حلّ «مجلس الحرب» المصغّر، ومع رؤساء وأعضاء لجان الكنيست الذين يطالبون بمناقشة ما يحصل في ساحات المعارك على مختلف الجبهات ما بين شمال البلاد والجولان او في قطاع غزة وغلافه، وسط مجموعة من الخيارات التي دفعت إلى انقسام كبير وغير مسبوق بين دعاة المضي في الخيارات العسكرية أو اللجوء الى مثيلاتها الديبلوماسية والسياسية، والذي بلغ الذروة في الأيام الاخيرة الماضية.
ولذلك، لم يعد خافياً على من اطلّع على مجموعة من التقارير التي أعدّتها المخابرات الاميركية، وتلاقت في مضمونها الى حدّ بعيد مع الخلاصات التي انتهت إليها الدوائر الاميركية الاخرى، الديبلوماسية في وزارة الخارجية والعسكرية في وزارة الدفاع، انّ نتنياهو الذي أمدّته تحالفاته مع المتشدّدين في الكنيست للاحتفاظ بالأكثرية النيابية، قد قرّر ان يلعبها «على حدّ السكين»، بين أن يكون على أبواب السجن لمجرد الحضور أمام قضاة المحكمة العليا لمساءلته بتهم الفساد، او على عتبة الزعامة إن حقق اي إنجاز عسكري او أمني يسعى جاهداً اليه في اي جبهة من الجبهات السبع المفتوحة التي تخوض فيها اسرائيل ما تسمّيه الطغمة الحاكمة «حرب الوجود» على مستوى الدولة او على مستوى حياتهم الشخصية.
على هذه الخلفيات، لم تعد المراجع الديبلوماسية الغربية والاميركية خصوصاً، تجد صعوبة في تبرير أسباب الفشل التي مُنيت بها مبادرة الرئيس جو بايدن الاخيرة، وأُدرجت على لائحة المبادرات السابقة التي انهارت واحدة تلو أخرى. وإن قالت انّ تردّد «حماس» في الإستجابة لما قالت به المبادرة. فالمعنيون يدركون انّ المشكلة الحقيقية تكمن في التعنت الاسرائيلي بحثاً عن نصر كاد ان يكون سراباً إن لم تجرِ القيادة العسكرية إعادة نظر في لائحة أهداف الحرب. فتكتفي بالادعاء أنّها قد قضت على قدرات «حماس» العسكرية، لتتفرّغ في مرحلة لاحقة للخيارات السياسية والديبلوماسية التي تسهّل تأمين الإفراج عمّن بقي من الأسرى العسكريين والمدنيين ومن ذوي الجنسية المزدوجة. بعدما توقف العدّ عند الطرفين، ولم يعد في قدرة تل ابيب الفرز بين من هم أموات او أحياء، بعدما امتنعت «حماس» في آخر جولة مفاوضات عن تقديم اللوائح النهائية، لتحتفظ بأكثر وأكبر اوراق القوة التي تضمن بقاء قيادتها على قيد الحياة، سواء بقيت في القطاع او خرجت منه عند حلول «اليوم التالي» للحرب، قياساً على حجم ونوعية التسوية التي يمكن التوصل إليها.
عند هذه المؤشرات، تقول مراجع ديبلوماسية، انّ الاميركيين الساعين الى وقف شامل وثابت للنار قبل دخول الادارة الاميركية مدار الانتخابات الرئاسية يحتاجون اليه في مهلة أقصاها تموز الجاري، ليتفرّغوا في آب المقبل للتحضير للمؤتمر الحزبي الكبير الذي سيحدّد هوية مرشحه الى الاستحقاق الرئاسي، بعدما طرحت في اوساطه فكرة استبدال «الرئيس الفاشل» في المناظرة الأولى أمام اقسى منافسيه مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب. ذلك انّ معظم القيادات الحزبية باتت على اقتناع انّ انجازاً ما في الشرق الأوسط بات بعيد المنال، وانّ نتنياهو على رغم من وجود من يدعمه من صفوف الحزب، باتوا على اقتناع يتعزّز يومياً بأنّه قرّر استدراج الإدارة الاميركية معه في الجولات المقبلة من الحرب، ولن يوفر اي وسيلة لإغراقها في هذا المستنقع اياً كانت الكلفة المقدّرة على اسرائيل ودول المنطقة، فالمعركة بالنسبة إليه صارت مصيرية، ولم تعد تُقاس بالاسابيع والاشهر مهما طال الزمن.
وقياساً على هذه المعطيات، فقد سعت الإدارة الاميركية الى استغلال وجود وزير الدفاع يوآف غالانت في واشنطن ليلعب دور «حصان طروادة» ضمن الليكود، عبر المقايضة بين نوعية الاسلحة التي يمكن ان تفك الحظر عنها، مقابل ضمان قبول نتنياهو بالمبادرة الاخيرة معدّلة في بعض النقاط والمراحل التي حدّدتها، لتوازي بين مطالبه الحادّة ومطالب القيادة الحمساوية وعدد من الدول الخليجية والعربية التي تصرّ قبل المضي في برنامج التطبيع، على الحدّ الأدنى من حقوق الفلسطينيين بالدولة المستقلة وحق العودة وتقرير المصير، إلى جانب الدولة الاسرائيلية ولو في المبدأ العام، قبل البحث في شكل هذه الدولة وما لها وما عليها من حقوق وواجبات، تضمن أن تكون هذه الحرب الأخيرة بينهما، ولفتح صفحة جديدة في العلاقات بين اسرائيل وجاراتها والعالم العربي.
وفي انتظار استكشاف ما يمكن ان يغيّره غالانت في توجّهات الحكومة الاسرائيلية، وما يمكن ان يساهم فيه لتقديم الخيارات الديبلوماسية والسياسية على ما عداها، ما زالت الإدارة الديموقراطية الاميركية تخشى من ان تحمل زيارة نتنياهو لواشنطن في 24 تموز الجاري، إن بقيت في موعدها، مزيداً من المتاعب لها. فالتناغم القائم بينه وبين النواب الجمهوريين الذين يشكّلون الأكثرية في الكونغرس قد ينعكس على شكل هذه الزيارة ومضمونها، ولربما زادت من الضغوط على بايدن بغية إيصاله منهكاً الى صناديق الاقتراع، ليتمكنوا من إصدار اللائحة الجديدة بإخفاقاته، بعدما وضعت الجردة الأولى في المناظرة التلفزيونية مع ترامب.
وعند الدخول في التفاصيل، تعكس المعلومات الواردة من واشنطن خشية من وجود سيناريو يدفع به نتنياهو للإسراع في إقفال جبهة غزة خلال اسبوعين او اقل بقليل، ليطلق حملته على الجبهة الشمالية مع لبنان قبل موعد زيارته لواشنطن، فيحمل معه قرار الحرب اليها، ويضع المسؤولين الاميركيين امام امر واقع جديد تترجمه «الورطة الكبرى» عند الانخراط في الحرب بنحو اوسع، وتحديداً ان استُدرجت ايران اليها، إن صحّت التهديدات التي أطلقتها بالتدخّل المباشر في حال استهداف الحزب بنحو أكثر قساوة من ذي قبل.
وبناءً على ما تقدّم، نصحت المراجع الدييلوماسية والعسكرية بعدم الاستخفاف بهذا السيناريو الذي ينقل المأزق الكبير من تل أبيب الى واشنطن ومنها الى أكثر من عاصمة في المنطقة والعالم. فتتحقق بذلك مصالح كثيرة للأعداء والخصوم قبل الحلفاء في مثل هذه المعركة التي يمكن تقدير بداياتها من دون القدرة على التكهن بنتائجها وما يمكن ان تقود اليه. ذلك انّ حسابات الربح والخسارة تجاوزت عملية إحصاء الضحايا الأبرياء في قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان بعشرات الآلاف. فهم كانوا وما زالوا وقود المواجهات الكبرى ومن ضحاياها لمصلحة مصانع الاسلحة وتجارها، طالما انّ قادتهم المحليين قبلوا بأن يكونوا أدوات هذا النزاع الكبير بلا تردّد.