Site icon IMLebanon

واشنطن لباريس: كش ملك

 

 

أحدث البيان الصادر عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الاميركية، والذي تطرّق فيه الى الملف الرئاسي اللبناني مباشرة، نوعاً من الإرباك، ليس فقط على المستوى اللبناني بل ايضاً على المستوى الديبلوماسي للدول المنخرطة والمعنية بإيجاد حلول للأزمة اللبنانية. وبدا واضحاً انّ الدوائر الديبلوماسية الاميركية اهتمت بإبراز موقف وزارة الخارجية حول لبنان. وبالتالي، فإنّ السؤال البديهي الذي يُطرح هو، حول الخلفيات الحقيقية التي تقف وراء الكلام الاميركي. فمنذ إتمام الترسيم البحري، بعد مفاوضات شاقة وصعبة ومتعرّجة، غاب لبنان تقريباً عن شاشة المواقف الاميركية. وعندما كان يجري ذكره، إنما كان يحصل وفق مفردات تقليدية وعامة، لا تحمل مضامين فعلية وحقيقية. وكانت الرسائل السياسية يجري توجيهها عبر قرارات العقوبات وفق اختيار التوقيت الملائم والمعبّر، وهذا ما حصل على سبيل المثال مع الاخوين رحمة.

وللإنصاف والموضوعية، فإنّ تغييب لبنان عن المواقف الاميركية التي تحمل محتوى سياسي حقيقياً لم يكن يعني تخلّياً اميركياً عنه بمقدار ما كان له علاقة بالتركيز على اولوية الملفات الاقليمية الدسمة، وحيث انّ لبنان يشكّل ملفاً رديفاً له ظروفه اللاحقة وتوقيته المستقل. وأن تتذرع وزارة الخارجية الاميركية بمهلة مرور ستة اشهر على حصول الفراغ لإصدار موقفها، فهي ذريعة غير مقنعة، خصوصاً انّ مهلة «الستة اشهر» لم تشكّل يوماً مناسبة لإصدار المواقف الاميركية، لا على المستوى اللبناني ولا على مستوى الأحداث الدولية. وبالتالي فإنّ ثمة معنى لاختيار هذا التوقت بالذات لصدور الموقف الاميركي، وايضاً لانتقاء عباراته. ذلك انّ البيان الاميركي دعا إلى «رئيس يتمتع بالصفات القيادية الملائمة لتجنّب لبنان المزيد من الكوارث». والواضح هنا، أنّ المقصود هو أن لا يكون الرئيس منتمياً إلى اي اصطفاف سياسي في لبنان، وفي شكل أوضح أن لا يكون من صفوف فريق الثامن من آذار.

وبذلك يكون الموقف الاميركي من الاستحقاق الرئاسي قد تدرّج من التعامل مع اي رئيس يتوافق عليه اللبنانيون، إلى رئيس يحمل المواصفات التي تمّ التوافق حولها.

وقبل موقف وزارة الخارجية الاميركية، كانت الرسالة التي وجّهها عضوان بارزان في مجلس الشيوخ الاميركي، روبرت مانديز عن الحزب الديموقراطي وجيمس ريش عن الحزب الجمهوري، إلى الرئيس الاميركي جو بايدن، حيث تضمنت دعوة ملحّة له إلى العمل عن كثب مع الحلفاء والشركاء في المنطقة لدعم عملية ديموقراطية شرعية لانتخاب رئيس للجمهورية على عكس الرؤساء السابقين، ويكون قادراً على المحاسبة وخدمة الشعب اللبناني.

وذكّر البيان ببعض الذين اصابتهم العقوبات، واضعاً ايّاهم في خانة حلفاء «حزب الله»، وأتى على ذكر الرئيس نبيه بري وحده دون سواه كحليف لـ»حزب الله».

صحيح انّ رسالة مانديز وريش، والتي حملت رسائل مبطنة، تشكّل مدخلاً ممتازاً لصدور بيان وزارة الخارجية، لكن ثمة ما هو ابعد في خلفية صدور البيان الاميركي. غالب الظن انّ البيان الاميركي خاطب التحرّك الذي قاده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في اتجاه ملف الرئاسة في لبنان، وهو ما يفسّر تكرار التذكير الاميركي بأنّ الانتخابات الرئاسية شأن لبناني داخلي. صحيح انّ بيان وزارة الخارجية لم يتطرّق مباشرة الى التحرّك الفرنسي، لكن المفردات التي اوردها معاكسة تماماً لجوهر المبادرة التي تولاها ماكرون.

ولا حاجة للإشارة الى انّ ما اعتبره الرئيس الفرنسي حيازته على الوكالة الاميركية في ملف الرئاسة اللبنانية بعد القمة الاميركية ـ الفرنسية في واشنطن في الاول من كانون الاول الماضي، انما لم تكن وكالة مفتوحة وبلا ضوابط.

وأظهر الاجتماع الخماسي الذي كان عُقد في باريس، انّ الولايات المتحدة الاميركية تتقاطع في موقفها من لبنان مع موقف السعودية. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير السكوت الذي تسلحّت به خلال اللقاء، مساعدة وزير الخارجية الاميركية بربارة ليف، ولذلك ايضاً أجهضت باريس يومها اصدار بيان ختامي كانت ليف قد احضرته معها، وكان يحظى بتأييد السعودية ومصر وقطر باستثناء فرنسا. وتقاطعت واشنطن مع الرياض حول تحديد المواصفات التي يجب ان يتمتع بها الرئيس، وهو ما لم يتوافق مع مبادرة ماكرون الرئاسية. وعلى رغم من انّ المتحدث باسم الخارجية الاميركية ماتيو ميلر لم يأتِ على ذكر المبادرة الفرنسية، بل تحدث عن التحرك بنحو عاجل لانتخاب رئيس يعمل على توحيد البلاد وإقرار الاصلاحات المطلوبة ووضع قادة لبنان جانباً مصالحهم وطموحاتهم، الّا انّ خلفية الكلام واضحة وتطاول «التدخّل الخارجي في الانتخابات». وخلال الاسابيع الماضية، ظهرت تطورات دولية زادت من التنافر الاميركي ـ الفرنسي الحاصل. والمقصود هنا موقف الرئيس الفرنسي إثر زيارته الصين ودعوته إلى ابتعاد اوروبا عن النزاع الصيني ـ الاميركي.

واعتُبر موقف ماكرون من مضيق تايوان موقفاً «رخواً» من مسألة اساسية وحيوية تخصّ التجارة العالمية.

وخلال الزيارة كان لافتاً اعلان باريس انّ ملف مضيق تايوان لن يتمّ تناوله الّا اذا ارادت الصين ذلك. في وقت تعتبر واشنطن انّ المضيق يشكّل طريقاً تجارياً دولياً يتأثر به الجميع بمن فيهم فرنسا.

ويومها وجّهت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية انتقادات إلى موقف ماكرون، واعتبرته موقفاً خاطئاً لأنّه «ليس في وسع الديموقراطيات الغربية تجاهل مسألة استقلال تايوان عن الصين».

كذلك بقي الموقف الاوروبي على مسافة من موقف الرئيس الفرنسي، واستطراداً يصبح التوقيت الذي صدر فيه موقف وزارة الخارجية الاميركية مفهوماً اكثر، خصوصاً انّ واشنطن تتقاطع مع الرياض التي تتعرض لضغوط هائلة من باريس، حول نظرتها للمرحلة المقبلة في لبنان، والتي ستشكّل الانتخابات الرئاسية المدخل الملائم لها.

هل هذا يعني انّ المبادرة الفرنسية سقطت بالضربة القاضية الاميركية؟ لا شك في أنّ الاعتراض الاميركي سيفرمل الاندفاعة الفرنسية، والتي اعترضتها اصلاً عوائق داخلية عدة، وخصوصاً مسيحية، ولم يكن من السهل تفتيتها. لكن من المبالغة الاعتقاد ايضاً بأنّه سيجري وضع باريس جانباً. والتفكير الأكثر منطقياً، انّ ثمة مرحلة جمود قد تحصل على مستوى الملف الرئاسي، وسيُستعاض عنها بانتظار ما سيخرج عن القمة العربية بعد اكثر من اسبوعين، وايضاً ما سيُستجد على مستوى الحركة الايرانية ـ السعودية خصوصاً في اتجاه سوريا.

وقد تشكّل هذه المحطات فرصة زمنية لإنضاج المواقف، وتسمح بانعقاد الاجتماع الخماسي مرة جديدة، ولكن على مستوى وزراء الخارجية، واصدار بيان ختامي ببنود واضحة، يشكّل خريطة طريق واضحة وفق برنامج زمني محدّد.

وقد تشهد هذه المرحلة مطبّات صعبة سيُستفاد منها للدفع في اتجاه التسوية والحل المنتظرين، كمثل استحقاق انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومخاطر ارتفاع حرارة اللهيب النقدي في حال الوصول الى تاريخ هذا الاستحقاق من دون التوصل إلى الحلول المطلوبة.

كذلك احتمال إصدار عقوبات اميركية جديدة تحمل رسائل سياسية اكثر حدّة وقساوة. والواضح انّ ايران باشرت بإعادة تموضعها وفق عنوان الانتقال من مرحلة المواجهات إلى مرحلة تثبيت الحصص والتسويات. ومن هذه الزاوية لا بدّ من قراءة حقيقة زيارة وزير الخارجية الايراني للبنان، حيث سعى لرسم حدود نفوذ ايران سياسياً وعسكرياً، مع ارسال اشارة الموافقة على تعديل المعادلة السياسية الداخلية القائمة، من خلال منح القوى المعارضة لـ»حزب الله» هامشاً أوسع على مستوى الإدارة السياسية للبلاد.

وكذلك، فإنّ زيارة الرئيس الايراني لسوريا تأتي وفق المبدأ نفسه، اي تحت عنوان البدء بترتيب مرحلة التسويات التي بدأت المنطقة تدخلها. ففي سوريا سيوقّع الرئيس الايراني اتفاقات اقتصادية كبيرة ومهمّة جداً، وتكون بمثابة الترجمة الاقتصادية للنفوذ العسكري الايراني، والذي تمّ تكريسه خلال سنوات الحرب الماضية.

واستطراداً، فإنّ الدخول الفرنسي من خلال الاستحقاق الرئاسي إلى «جنة» الاستثمارات اللبنانية، وبالتالي الى الاسواق الاقتصادية الايرانية والسورية، جاء متسرّعاً وغير مدروس وفي توقيت غير ملائم. وقد يشكّل استحقاق انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان الصعب، واحتمال صدور عقوبات اميركية جديدة، دخاناً حاجباً لنسج تفاهمات بين واشنطن و»حزب الله» لترتيب العناوين العريضة للمرحلة المقبلة، والتي من المفترض ان تعيد الاستحقاق الى الساحة اللبنانية لفترة طويلة نسبياً.

ويبقى السؤل هنا، ما إذا كان موعد استحقاق حاكمية مصرف لبنان يشكّل دافعاً قوياً لإنتاج التسوية الرئاسية قبله، أم انّ الطبخة قد تحتاج لمزيد من النار لإنضاجها، وهو ما يعني تجاوز هذا الموعد مع ما يعني ذلك رفع مستوى النار اكثر.