IMLebanon

حول ديمقراطية الانتخابات الأميركية

 

 

الإنتخابات ضرورية للنظام الديمقراطي ولكنها غير كافية. معظم الديكتاتوريات تعقد انتخابات دورية، تشريعية ورئاسية، ينجح فيها القائد وزمرته بأكثرية قد تصل إلى 99 بالمئة، لكن هذا لا يعطيها صفة الديمقراطية. لكي تحصل على هذه الصفة فعلى الانتخابات أن تكون ممثلة لإرادة الشعب الذي تدعي تمثيله، وكلما ابتعدت عن هذا الهدف ابتعدت عن الديمقراطية. هذه المسافة تحدد مدى ديمقراطية الانتخابات. أبدأ بهذه البديهيات لأقول أن هذا المقال هو محاولة لقياس هذه المسافة بالنسبة للإنتخابات الأميركية وللقول بأنها أكبر بكثير مما يتصورها معظم الناس.

تمثيل الأقليات منقوض:

مشكلة تاريخية

 

هناك ألاعيب تقوم بها بعض الولايات التي تحتضن نسبة كبيرة من السود (أو غيرهم من الأقليات أو ذوي الإنتماءات السياسة غير المرغوب فيها) لمنعهم من الإنتخاب قدر المستطاع. على سبيل المثال، فبما أن الأميركي لا يحمل بطاقة هوية رسمية، يُترك للولاية تقرير نوع الهوية المطلوبة للإقتراع. من هذا الباب تسللت هذه الولايات لقمع الناخبين (voter suppression) غير المرغوب فيهم، بالأخص من السود، بطلب إثبات الهوية من خلال شهادة سوق أو جواز سفر، أي وثائق أقل انتشارا بين السود مما هي بين البيض. كما أن الكثير من هذه الولايات متهمة بوضع صناديق الإقتراع بعيداً عن أماكن تجمع السود مما يزيد من صعوبة اشتراكهم في التصويت. أما طريقة القمع الكبرى، بالنسبة لانتخابات المجلس النيابي على الأقل، فهي في التلاعب بالتقسيمات الإدارية داخل الولاية (gerrymandering)، إذ تقوم الولاية بإعادة رسم حدود المقاطعات، التي تتمثل كل واحدة منها بنائب، لتغيّر مكان اقتراع السود، من مقاطعات حيث لهم تأثير وازن في الانتخابات إلى مقاطعات ذات أغلبية كبيرة من البيض تخفف من فعالية أصواتهم في الانتخابات.

 

حاولت الحكومة الفدرالية لجم الولايات في هذا المجال، من خلال «قانون حقوق التصويت» لسنة 1965، ودعمه بقوانين إضافية سنة 1970 و 1975 و1982، ما حسن كثيراً مشاركة الأقليات، ولكن بقيت مشاركتهم أقل من مشاركة البيض.

 

ولكن سنة 2013 أصدرت المحكمة العليا حكماً يعيد للولايات معظم المسؤوليات التي كانت قد سحبتها منهم القوانين الآنفة الذكر، فعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وأصدرت 23 ولاية، في الخمس سنوات التي تلت حكم المحكمة، عشرات القوانين التي تعيد سياسة قمع الناخبين إلى ما كانت عليه قبل سنة 1965. وفي أيار من السنة الحالية أصدرت المحكمة العليا حكماُ يسهل للولايات إعادة رسم حدود المقاطعات ما سيعطي، دون شك، زخما إضافيا لعودة قوانين قمع الناخبين في عديد من الولايات وقد تبدأ نتائجه بالظهور في الانتخابات القادمة هذه السنة وبصورة أكبر في السنين القادمة.

التمثيل الشعبي في الانتخابات التشريعية والرئاسية غير عادل

 

بالنسبة للإنتخابات التشريعية، يعطي الدستور لكل ولاية حق انتخاب عضوين في مجلس الشيوخ بصرف النظر عن عدد سكانها. وبما أن عدد سكان الولايات يختلف بشكل كبير فيما بينها، فعدد الأشخاص الذين يمثلهم كل عضو في مجلس الشيوخ يختلف هو الآخر بشكل كبير أيضاً. . فعلى سبيل المثال، يمثل كل عضو في مجلس الشيوخ من ولاية كاليفورنيا حوالي 20 مليون نسمة بينما يمثل نظيره من ولاية دلاوير نصف مليون ومن ولاية ويومينع أقل من 300 ألف. ولأن لمجلس الشيوخ مبدئياُ كلمة كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، من الموافقة على تعيين وزراء وسفراء إلى إعلان الحرب، فهذا يعني أن هذه السياسة تتأثر بشكل غير متناسب لصالح سكان الولايات الصغيرة حيث النسب عالية من الريفيين ذوي الخبرة والإهتمام المحدودين في مشكلات العالم الخارجي.

 

الشيء نفسة ينطبق على الانتخابات الرئاسية. فكما هو معروف، فإن انتخاب رئيس الجمهورية يتم من خلال انتتخاب لائحة مندوبين أعلنوا ولاءهم لمرشح ما، وهؤلاء ينتخبون الرئيس. يعطي الدستور كل ولاية نسبة من مجموع المندوبين (الـ435) توازي إثنان زائد عدد مندوبين يوازي نسبة سكان الولاية من مجموع الأميركيين، على ألا يقل عدد المندوبين لأية ولاية عن ثلاثة، مهما كانت نسبة سكانها، ما أعطى الولايات الصغيرة ميزة كبيرة. فعلى سبيل المثال، كل مندوب من تكساس يمثل حوالي 750.000 مواطن بينما كل مندوب من ولاية فرمونت يمثل أقل من 200.000. ومن سيئات هذا التقسيم هو أنه من الممكن أن يحصل مرشح على أقلية من الأصوات الشعبية بالتوازي مع أكثرية من أصوات المندوبين، وهذا ماحصل مؤخراً سنة 2016 التي نجح فيها ترامب بأقلية الأصوات الشعبية وأغلبية أصوات المندوبين وسقطت فيها هيلاري كلينتون.

مواطنون ليس لهم حق الإنتخاب

 

رغم أن الملحق الدستوري الرابع عشرالصادر سنة 1870 يعطي الحق لكل مواطن أميركي بالإنتخاب، هناك عدد من المواطنين الأميركيين ليس لهم حق الإقتراع في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية.

 

هناك أولاً سكان ما يسمى رسمياً المناطق المعزولة (Insular Areas). فبعد الحرب الأميركية الإسبانية في أواخر القرن التاسع عشر، استولت أميركا على جزر كانت تحكمها إسبانيا أهمها اليوم بورتوريكو، وجزر العذراء، وغوام، وجزر ماريانا الشمالية، وساموا الأميركية. بعد دعاو كثيرة أمام المحكمة العليا، أعطيت الجنسية لكل المولودين في هذه المناطق ولكن دون حق الإقتراع في الانتخابات الفيديرالية، التشريعية والرئاسية. بالمقابل، إعطي سكان هذه المناطق حق انتخاب «مندوب» (Delegate) أو «مفوض مقيم» (Resident Commissioner) لكل منها يمثلها في مجلس النواب، له حق الكلام في المجلس ولكن ليس له حق التصويت على القرارات. الحجة هي أن الدستور يعطي الحق لـ «سكان الولايات» بانتخاب نواب، وهذه المناطق ليست ولايات، رغم أن سكانها يحملون الجنسية الأميركية. وليس لأية منطقة من «المناطق المعزولة» حق التمثيل في مجلس الشيوخ.

 

هذا المنطق طُبّق أيضاً على المقيمين في العاصمة واشنطن إذ أنها تقع في مقاطعة كولومبيا التي لم تحصل بعد على مرتبة ولاية، رغم المطالبة المزمنة بذلك. إلا أن الضغوطات أنتجت سنة 1961 التعديل الدستوري الذي أعطى للمقيمين في العاصمة حق انتخاب ثلاثة مندوبين في إطار الانتخابات الرئاسية ولكن، كما في حال المناطق المعزولة، تتمثل العاصمة في مجلس النواب بمندوب وليس لها أي تمثيل في مجلس الشيوخ.

كلفة الانتخابات الباهظة

أعطت اللوبيات حق القرار

 

المشكلة الديمقراطية الكبرى في الانتخابات الأميركية تنبع من كلفتها الباهظة. فمجموع ما أنفق كل المرشحين وداعميهم في الانتخابات الرئاسية سنة 2020 يقدر بحوالي خمسة مليارات دولار. حملتي ترامب وبايدن والحملات المساندة لهما لوحدها كلفت حوالي 2,7 مليار دولار، 1،7 مليار دولار لبايدن وأكثر من مليار دولار لترامب. هذه الأرقام الهائلة لها انعكاسات على شروط الترشح الجدي للإنتخابات الرئاسية أهمها:

 

أولاً، على المرشح للرئاسة أن ينتمي إلى أحد الحزبين الكبيرين. مرشحوا الأحزاب الصغيرة أو المستقلين ليس لهم حظاً في النجاح، إذ لم ينجح أحدهم في نيل أكثر من 10 بالمئة من الأصوات الشعبية منذ حوالي عشرين عقدا من الزمن. فلا خضر ولا إشتراكيون ولا إصلاحيون ولا من يحلمون. كل ما يستطيع أن يحلم به المرشح الثالث هو أن يلعب دور المفسد، ويأخذ من أصوات أحد المرشحَين من الحزبَين الرئيسيين ما يكفي لتغيير نتيجة الانتخابات بينهما.

 

ثانياً، منذ سنة 2010، وبموجب حكم صادر عن المحكمة العليا، أصبح بمقدور الأشخاص والمؤسسات، وبالأخص اللوبيات الغنية، التبرع للمرشح دون قيود تذكر فتدفقت بنتيجته الأموال على مرشحي الحزبين الكبيرين بشكل غير مسبوق وارتفع نفوذ الممولين الكبار.

 

ثالثاً، ما سبق ينطبق طبعاً على الانتخابات التشريعية لمجلسي النواب والشيوخ وحتى على الانتخابات المحلية. هذا ما جعل اللوبيات الكبيرة مؤثرة على القرار السياسي في مجال عملها بشكل كبير قد يكون شبه كامل. أكبر لوبي داخلي هو لوبي السلاح الذي يعتبره الكثيرون العقبة الكبرى أمام محاولات تعديل الملحق الثاني للدستور الذي يسمح بحمل السلاح وتأسيس المليشيات، رغم كثرة حوادث القتل الجماعي بأسلحة حربية هجومية، ورغم مطالبة الأغلبية الشعبية بتعديله أو إصلاحه. وأكبر لوبي خارجي هو اللوبي الإسرائيلي الذي يلعب الدور الرئيسي في تحديد السياسة ألاميركية في الشرق الأوسط التي لم تتأثر مثلاً بالإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة، ولا بالحركات الشعبية المطالبة بالتغيير.

الخلاصة

 

في نظام انتخابي حيث تمثيل الأقليات منقوص، وحيث هناك مواطنون يحملون الجنسية ليس لهم حق الانتخاب، وحيث قد يُنتخب رئيس البلاد بأقلية من الأصوات الشعبية، وحيث النائب قد يمثل شعبياً حوالي أربع مرات زميله في المجلس النيابي، والشيخ قد يمثل شعبياً أكثر من 60 مرة زميله في مجلس الشيوخ، وحيث ليس باستطاعة أحد الترشح جدياً للإنتخابات إلا من ضمن المنظومة السياسية القائمة، وحيث تهيمن اللوبيات على القرارات السياسية بشكل كبير، فالمسافة التي تفصل هذا النظام عن الديمقراطية كبيرة. يقول أحد أساتذة العلوم السياسية المعروفين في جامعة هارفرد، وأحد مؤلفي كتاب «كيف تموت الديمقراطيات : «إن ديمقراطيتنا (الأميركية) تعاكس حكم الأغلبية، أكثر بكثير من أية ديمقراطية أخرى في العالم».

 

سفير لبنان في واشنطن سابقاً