باستثناء الاعلان بأنّ مطلق النار على مدخل السفارة الاميركية في عوكر منتصف الاسبوع الماضي مختل عقلياً – وهو منطق تعرفه الولايات الخمسين الاميركية المتحدة بشكل متكرر – تتعدد السيناريوهات التي تحاكي استهداف الولاية الـ«51» منها، طالما لم يكشف بعد عن نتائج التحقيقات الجارية. وقبل وبعد القول تسريباً انّ حراس السفارة اوقفوا سوريّاً وفلسطينياً متورطين في الحادث، بقيت الرواية مدار شك كبير. وهو ما زاد من نسبة الغموض على خلفيات مختلفة ومنها.
كل ما هو ثابت انّ اياً من المراجع الامنية العليا لم يكشف بعد عن هوية منفذي الاعتداء بـ 15 رصاصة على مداخل المجمع الديبلوماسي الاميركي الاكبر في الشرق الأوسط وربما في العالم ليل الاربعاء – الخميس الماضي. لكن احدها يؤكد ان التحقيقات جارية وقد استخدمت حتى اليوم مختلف التقنيات التي يمكن ان تؤدي الى كشف الفاعل ان كان منفردا، او الفاعلين ان كشف عمّن قرر وخطط ووجه وسهّل الوصول الى من بقدرته تنفيذ مثل هذا الإعتداء ومن توفرت لديه القدرات بتأمين وصوله الى تلك النقطة المواجهة لمدخل المجمع وضمان انسحابه منها سالما وآمنا، قبل ان يتنبه اليه احد من حراسه او اولئك المكلفين بأمن محيطها والطرق المؤدية اليها.
فكل ما أنجزته التحقيقات الجارية على اكثر من مستوى اميركي ولبناني ومعهما معظم الاجهزة المنتشرة على الاراضي اللبنانية الصديقة منها او تلك التي تنصب لهما العداء في العلن، والتي اعتادت تبادل المعلومات في الحالات الاستثنائية، انها استبعدت معظم السيناريوهات التي ترددت حول هوية مطلق او مطلقي النار حتى اليوم وما استخدم في العملية من آلية وفّرت الظروف التي سمحت بها. ولا سيما تلك التي قالت ان المنفذين استخدموا سيارة رباعية الدفع ذو زجاج داكن ولا تحمل اي لوحات، او دراجة نارية والى ما هنالك من السيناريوهات «الهوليودية» التي تتجاهل ما هو متخذ من تدابير في المنطقة بغية توجيه اللوم او الإتهام غير المباشر لجهاز امنها الخاص والجيش اللبناني قبل غيره من الاجهزة.
وعليه، توسعت رقعة السيناريوهات المنطقية وغير المنطقية وظهرت نطريات يمكن الإستناد اليها عند تحليل العملية في توقيتها وشكلها ومضمونها قياسا على التجارب السابقة المتعددة، والتي يمكن ان تقود الى خيوط تفرج عما يمكن الكشف عنه من معلومات موثوقة تنهي الجدل الذي لم يهدأ بعد ولا يتوقع ان يكون ذلك قريبا في ظل تعدد الاهواء السياسية والرغبات بالادعاء بالقدرة على تنفيذ مثل هذه العمليات، على انها اشارة واضحة بأنه ليس هناك ما هو مستحيل ان وجد القرار بتوجيه رسالة ما الى السفارة الاميركية والقوى المعنية بالامر امنيا وسياسيا في لبنان والمنطقة.
فليس خافيا على احد، انّ السفارات الاميركية في اكثر من دولة في المنطقة والعالم باتت هدفا لهجمات استخدمت فيها مختلف انواع الاسلحة الصاروخية البعيدة المدى او طائرات الدرون. ولا سيما في العراق ما بين المنطقة الخضراء في قلب بغداد الأمني المحصّن ومدن كردستان العراق، والتي لم تتردد جهات عدة في التباري بتبنّيها، ردا على اكثر من عمل عسكري قامت به القوات الاميركية على اراضيها او للمطالبة بانسحابها النهائي من العراق، او باعتبارها مركزا تابعا للموساد الاسرائيلي ان كانت وحدات من بنات الحرس الثوري الايراني قد نفّذت العملية ردا على عمليات نفذت في قلب ايران، او لأية اغراض اخرى.
والى هذه السيناريوهات البعيدة عن واقع ما حصل في لبنان من اعتداء في شكله ومضمونه والظروف المؤدية اليه، ثمة من اعتقد انّ ما حصل له علاقة بأحداث عين الحلوة إثر التقارير التي نشرت وتحدثت عن قرار اميركي بتفجّر الوضع في المخيم اتخذ قبل ست سنوات على الاقل على الرغم من سخافة الراي والتحليل – كما يقول مرجع امني بارز – فعمليات من هذا النوع الذي شهدته عين الحلوة بين مجموعات لا يزيد عددها على بضعة عشرات من المسلحين يتمركزون خلف جدار او «برداية» تفصل بين حي سكني وآخر في المخيم تحتاج الى ست سنوات من التخطيط لها. ذلك انه على العقل البشري قبل العسكري المتخصّص ان يقيس ما حصل قبل ان ينطق بمثل هذه النظريات، وخصوصاً ان المواجهات وقعت بين مجموعات مُسلحة يقال انها دخلت المخيم قبل اشهر او اسابيع قليلة في مواجهة قوات الامن الفلسطيني المشتركة.
ولذلك، فإن ربط البعض بين ما حصل والذكرى السنوية لما يسمونه «مجازر صبرا وشاتيلا» فليس من المنطق الانطلاق بأي تحقيق تحت هذا العنوان والذي يمكن ان يضاف الى قراءة أخرى تدعي ان الإعتداء حصل غداة نشر السيناريوهات المتعلقة بالمساعي المبذولة للتطبيع بين المملكة العربية السعودية واسرائيل فيكون عندها العنوان المستهدف خطأ كبيراً. فقد سبق ان اعلنت مجموعة الاتفاقيات الابراهيمية بين مجموعة من دول الخليج العربي واسرائيل ولم يسجل اي رفض لها بمثل هذه العمليات التي استهدفت السفارة الاميركية.
وعليه، وبعد سقوط هذه النظريات المتعددة الوجوه، يبقى من الحكمة التريث في الحكم على ما جرى، بانتظار التحقيقات الجارية والتي لا بد من الكشف عن نتائجها، فما اتخذه الإعتداء من ردات فعل تجاه الجانبين المستهدفين منه، السفارة الاميركية من جهة والجيش اللبناني المكلف بحماية محيطها من جهة اخرى تفرض التعاطي مع الحادث بجدية اكثر من التعاطي الاعلامي مع ما حصل. ولكن ما هو محيّر ان السفيرة الاميركية واثناء وجودها في مكتب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي كان عائداً للتو من نيويورك تبلّغت انّ التحقيقات ما زالت قاصرة عن تحديد اي معلومة مفيدة عن الجهة الفاعلة وحتى بالنسبة الى تفاصيل أخرى متصلة بها، وهو ما يدفع الى ان البحث عن هوية المهاجم واهدافه يجب ان يتم في مكان ما خارج مسرح الجريمة وربما في الصالونات السياسية والديبلوماسية فالرسالة ليست بالحجم الامني الذي يثير القلق ما لم يكن هناك سر ما لا يمكن البوح به الا في موعد استحقاقه.
وختاماً، وبعيدا من كل هذه الملاحظات فإنّ هناك من يعتقد ان الحادث استهدف سور الولاية الواحدة والخمسين للولايات المتحدة الاميركية على سبيل التورية السياسية. فالسفارة التي قيل ان لا مثيل لها في المنطقة والعالم، قد تكون هدفا في اي وقت، وانّ من باستطاعته بلوغ تلك النقطة قد يتمكن في اي توقيت آخر يختاره للقيام بعملية اكبر واشد خطورة مما حصل. وفي مثل هذه الرواية دافع الى عدم الكشف عما حصل وتحديد المسؤولية على من نفّذ العملية لتبقى سرا متبادلا بين الاميركيين من جهة و»عدواً مخفياً». وهو امر ممكن في العلاقات بين الاجهزة المخابراتية، فتبقى العملية محصورة بتردداتها وما انتهت اليه بين المعتدي والمستهدف فقط دون غيرهما، الى حين الرد عليها وهو امر سيبقى غافلا ومخفيا على اي طرف ثالث آخر، ليطوى الحادث ويتراجع الاهتمام به الى حين ليس باستطاعة أحد تقديره.