IMLebanon

الحشد العسكري الغربي والعربي: كيف نُبقي سيادة إسرائيل على السماء؟

 

 

أن تُلدغ من الجحر نفسه ألف مرة، أمر عادي بالنسبة إلى كثيرين ممن يتعاملون بدهشة مع المبادرات الأميركية لوقف الحرب على غزة. صحيح أن غالبية الناس تريد وقف الحرب، لكن أقلية تريد ذلك بأي ثمن. وهي أقلية موجودة على ضفّتَي الصراع. ذلك أن كلفة استمرار الحرب كبيرة جداً في مواجهة هدفها من جانبنا، تحرير الأرض من المستوطنين، وهدفها من الجانب الآخر، «تحرير» الأرض من الفلسطينيين.الغالبية الفاعلة في إسرائيل تريد الانتهاء من الحرب، لكن بعد تحقيق أهدافها. وعندما يخرج من يتحدّث عن غياب الأهداف الواضحة، يكون كاذباً، كونه أيضاً يسأل عن القدرة والكلفة، لكنه يعرف أن الهدف المُتفق عليه بين الإسرائيليين، شعباً وجيشاً ومؤسسات، هو دفع الفلسطينيين إلى الاستسلام. ومن يطلبون من بنيامين نتنياهو قبول الصفقة، إنما يطلبون فترة راحة قبل استئناف الحرب، ليس فقط ضد غزة، بل ضد كل أعداء إسرائيل.

نتنياهو ليس بطلاً مغواراً، لكنه يرى في وقف الحرب الآن تراجعاً وإشارة ضعف. وحجته أن إسرائيل قادرة على تحمّل الخسائر الحالية. وهو كان صريحاً في مقابلته مع «تايم» عندما قال إنه يخوض «حرباً وجودية». صحيح أنه أقرّ بأنها «مخاطرة»، لكنه أوضح فكرته: «سننجو إذا فزنا. وإذا لم نفز، فسيكون مستقبلنا في خطر عظيم». ليضيف: «إن الدمار له عواقب أكبر على أمن إسرائيل. وأنا أفضّل أن أحظى بتغطية إعلامية سيئة على أن أحظى بنعي جيد».

عقلية نتنياهو تنتج المزيد من حلقات الدم. ويبدو أن دماء غزة لم تعد كافية لتحقيق الهدف. وإسرائيل تريد حلقة دماء أوسع، وتسعى إلى جعل دماء غزة بقعة صغيرة يمكن القفز فوقها. وهذا ما يقف خلف القرار النوعي برفع سقف المواجهة مع محور المقاومة من خلال اغتيال إسماعيل هنية في إيران، وفؤاد شكر في بيروت.

في حالتنا الراهنة، يريد نتنياهو جرّ محور المقاومة إلى المواجهة المباشرة. ولندع جانباً كل الكلام الشعبوي، سواء الذي يصدر عن جمهور مؤيّد للمقاومة يتوقع تدميراً كاملاً للكيان، أو هلوسات جمهور إسرائيل بأن الحرب ستخلّص المنطقة من «الوباء الخميني»: عندما تريد إسرائيل جرّ كل محور المقاومة إلى الحرب الكبيرة، إنما تفعل ذلك بوعي يتصل بمصلحتها المركزية في حرب واسعة، لكنها لا تريد لهذه الحرب أن تكون معها وحدها، وهي حتى لا تريد أن يكون الأميركيون وحدهم حلفاءها في هذه الحرب، بل هي تريد إشهار التحالف العربي – الغربي الذي يرى في إيران ومحور المقاومة خطراً على مصالحه.

قد يكون هناك من يعتقد بأن إسرائيل غير قادرة على فرض أجندتها على الآخرين. وهذا البعض ينظر إلى الأمر من زاوية ضيقة للغاية، بل ببلاهة من يحصرون سبب اندفاعة نتنياهو بخشيته من الذهاب إلى السجن. لكن الواقع أن غالبية الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، أنتجت مع غالبية العرب، بقيادة مصر والسعودية، تحالفاً يوفّر الغطاء الذي يحتاج إليه مجانين إسرائيل لمواصلة سيركهم الدموي. وكل ما يفعله نتنياهو اليوم أنه احتفظ بالنرد بين يديه لثلاثة أشهر، حتى جاءته اللحظة المناسبة لرميه على الطاولة: لحظة الانقسام الأميركي الفعلي حول طريقة حكم العالم، ولحظة الشلل العربي حيال تحديات النمو والتبعية، ولحظة التقاعد الإلزامي لأوروبا بعدما تجاوزت منذ وقت طويل السنّ القانونية للعمل.

لماذا يتكتّم العدو على طبيعة الهدف الذي ضربته مُسيّرات المقاومة غرب صفد؟

 

مجرد أن تقول أميركا، ومعها أوروبا و«عرب السعودية ومصر»، بأن ما حصل في بيروت وطهران لا يستوجب رداً فعلياً، وما تلاه من استنفار غير مسبوق لحماية الكيان، كان مقدّمة لتوضيح أن نتنياهو نجح في إلزام حلفائه المعلنين أو المستترين بإشهار مواقفهم. وعندها، لا يبقى معنى لكل «سعدنات» دول تابعة، مثل الإمارات والأردن، أو قبرص واليونان.

ما سبق، يمكن وضعه في خانة الاستعداد لمعركة غير معروفة الاتجاهات، لكنها معركة قاسية بحسب ما يتصرف العدو وحلفاؤه. هي معركة يمكن أن تنتج عنها حرب كبيرة، تتطلب قدرات نارية استثنائية لتحقيق النصر. لكن أساسها بات محصوراً في خصائص الدفاع عند الكيان.

في هذا السياق، يتصرف الأميركيون على أساس أن ما حصل في بيروت وطهران جزء من المعركة القائمة، وبالتالي، لا يستوجب رداً خارج إطار هذه المعركة. وعندما يقول الأميركيون هذا الكلام، فهم يقترحون على إيران وحزب الله رداً متواضعاً لحفظ ماء الوجه. ولذلك، أخرج الأميركيون أرنبهم الوحيد، فقرروا بث الروح في المفاوضات حول غزة. غير أنهم لم يقدّموا اقتراحاً يقود إلى وقف للحرب. وجل ما يسعون إليه هدنة مؤقتة، تقتصر على المرحلة الأولى، بحيث يُمنح الفلسطينيون ستة أسابيع لدفن شهدائهم، فيما يكون جيش الاحتلال قد أعاد تنظيم صفوفه لجولة جديدة من القتال، ضد غزة نفسها، وضد محور المقاومة أيضاً.

وهذا الاستحقاق يشكّل، بالنسبة إلى العدو، فرصة لإظهار قدرة إسرائيل على إلزام جميع الحلفاء بأن يهبّوا، دفعة واحدة، لمعالجة ثغرة بدأت بالبروز، ولم تكن في الحسبان سابقاً، تتعلق بسيادة إسرائيل على السماء في كل الشرق الأوسط. ولذلك، فإن ما نراه اليوم من استنفار دفاعي للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول عربية يتقدّمها الأردن، إنما يصب في خدمة الهدف نفسه، لأن الأمر لا يتعلق بالمُسيّرات التي أمكن لمحور المقاومة إيصالها إلى مواقع العدو في الفترة السابقة، بل يتعلق أكثر بإيجاد علاج دائم وفعّال لأصل التهديد. وهو علاج يتطلب ما هو أكبر من الجهد الدفاعي، ويأمل نتنياهو أن يكون الرد من جانب محور المقاومة كفيلاً بجعل الملف أولوية تتقدم على أي أولوية أخرى في الصراع القائم.

أمران لافتان حصلا خلال الساعات الـ 36 الماضية، يجب التوقف عندهما:

الأول: قول يؤاف غالانت إن ايران وحزب الله «يهددان إسرائيل بضربها بطرق لم يستخدماها سابقاً، ما سيدفعنا إلى الرد بطرق لم نستخدمها سابقاً. وعليهم أن يحذروا حتى لا نضطر إلى القيام بخطوات توقع ضرراً كبيراً، وترفع احتمال الحرب على عدة جبهات، وهو أمر لا نريده، ولكن من واجبنا الاستعداد له».

الثاني: إن حزب الله شنّ هجوماً نوعياً على مركز عسكري بالقرب من طبريا. وقال إن المُسيّرات الانقضاضية ضربت قاعدة محفاة ألون الواقعة جنوب غرب صفد. ورغم انشغال وسائل إعلام العدو بالسؤال عن عدد المُسيّرات، وصمت المتحدّث باسم جيش الاحتلال، إلا أن «القناة 14» العبرية قالت في وقت لاحق إن المُسيّرات «ضربت عدة أماكن، ممنوع الحديث عنها بأمر من الرقابة العسكرية».

وعلى ما يبدو، فإن الهدف الذي أصابته المُسيّرات يتصل بالقدرات الخاصة بسلاح الجو الإسرائيلي. صحيح أن المقاومة لم تستخدم أسلحة جديدة، إلا أن مجرد حصول ما حصل، أعاد إلى الواجهة التحدي المركزي عند جيش الاحتلال، والمتعلق بالسيادة على السماء.

وكون العدو يعرف جيداً أن أبرز ما يميزه عن حلفائه وأعدائه، موجود في سلاحه الجوي، وفي منظومات الدفاع الجوي لديه، إلا أنه بعد اختبار عشرة أشهر مع لبنان، ومع صواريخ «أنصار الله» والمقاومة العراقية في الجنوب والغرب، صار مضطراً لأن يتواضع قليلاً. ولذلك، فهو يركّز التعاون مع حلفائه من الغربيين والعرب على هذا القطاع دون غيره. وقد بات واضحاً أن كل ما استقدمه الأميركيون والأوروبيون إلى قواعدهم في الأردن وقبرص واليونان، والأسلحة المنصوبة على قطعهم البحرية المنتشرة قبالة سواحل لبنان وسوريا وفلسطين، إنما هدفه تأمين الدعم في مجال الدفاع الجوي لمواجهة هجمات يعتقدون بأنها ستتم عبر مُسيّرات أو صواريخ تُرسل من اليمن والعراق وإيران ولبنان، فيما الوجه الآخر لهذه المهمة هو توفير قواعد بديلة لسلاح الجو الإسرائيلي في حال تطورت المواجهة إلى ما هو أبعد من ضربة على هامش الحرب الدائرة الآن.