سرَت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في العالم العربي مقولة شهيرة إتضح أن استعمالها غالبا كان من قبل الأنظمة لمقاومة الإصلاح الداخلي ودمقرطة المجتمعات: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
هو الشعار نفسه يتردد دوما وأبدا على رغم مضي عشرات العقود وعلى رغم أن العرب لم يستغلوا الهدنات الطويلة مع الأعداء لتحديث الداخل ونشر الحريات، بل استعملوها للمناورة إعتقادا منهم أنهم بذلك يعززون سطوتهم على شعوبهم.
في لبنان اليوم لا يتردد هذا الشعار بحذافيره، بل يوحى به وسط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الأكبر منذ نشوء الكيان اللبناني (حتى أنها تعود الى ما قبل هذه الولادة الغريبة قبل نيف وقرن من الزمن). فمنذ اندلاع شرارة المعركة في غزة وتبادل النار على الحدود، خرج من يعلن جهارا وسريعا بأن الانتخابات الرئاسية، أولى مداميك الإصلاح وأولى رسائل الإيجاب تجاه الخارج، باتت خارج الحسابات لا بل “طارت” على حد ترديد أحد النواب في معسكر محور الممانعة (وهو من المعتدلين فكيف بالصقور؟).
حدث هذا الضرب للانتخابات الرئاسية بعد ساعات على عدوان غزة بما يوحي بأن معسكر الممانعين كان يتحين الفرصة للخروج من هذا الاستحقاق الذي كانت المؤشرات الكبرى تنفي عن مرشح الممانعة سليمان فرنجية قدرته على الظفر به.
الأمر الغريب هنا والجديد في الآن نفسه، أن تقاطعا حصل أخيرا على استبعاد انتخاب رئيس جديد لكن لحسابات مختلفة، وأتى هذا النفي للحل الرئاسي على لسان الأميركيين الذين يعتقدون أن الأمر ليس قريبا بل سيطول نظرا للظروف الاخيرة وأهمها ما حصل في غزة.
هذا ما يقوله ديبلوماسي أميركي سابق في دردشاته الضيقة، وهو الذي كان أيد في الأشهر السابقة وصول قائد الجيش جوزيف عون إلى الرئاسة. ويشير إلى أن المهم اليوم حفظ رأس مرشح غالبية الخارج “الفاعل في الشأن اللبناني” في حظوظه الرئاسية عبر تمديد قيادته للجيش اللبناني قبل البحث في تسوية مع الفريق الآخر لإيصاله الى الرئاسة.
صحيح أن البراغماتية الأميركية تتعاطى مع واقع الأمور في لبنان وليست رئاسة ميشال عون سوى مثالا كبيرا عليها، إلا أن الصحيح أيضا أن الخارج لن يقبل بسهولة استبعاد جوزيف عون من السباق الرئاسي والأخير لن يفقد حظوظه سواء انتهت ولايته أم لم تنته في حال أراده الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية، والعرب، الخليج على وجه التحديد.
الفرامل الأميركية على الصعيد الرئاسي تعود الى أن الأولويات هي لحل فلسطيني صياغته أميركية تعاني واشنطن لفرضه هذه الأيام كونه يريد فرض انقلاب كبير في قطاع غزة. ومن الأهمية بمكان القول إن الإدارة الأميركية منهمكة في منع توسع الحرب وتدحرجها وهذا كان أول مسعى للسفيرة في لبنان دوروثي شيا التي استبقت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي كان وما زال يريد حفظ الاستقرار في الجنوب اللبناني والذي عاد وبعث “مُرسِّم” الحدود والعلاقات اللبنانية الاميركية آموس هوكشتاين إلى لبنان الذي لم يشهد حضورا لوزير الخارجية آنتوني بلينكن، لكن الخلاصة هي أن واشنطن، كما تقول، منعت حليفتها إسرائيل من توسيع الحرب نحو لبنان وتريد هدوءاً مقابلا من ناحية “حزب الله”.
غزة وفرنجية
لكن ينفع القول هنا أيضا إن أحداث فلسطين لن يكون لها كبير الأثر على الملف الرئاسي.
قد يكون ما حدث في فلسطين فعل في تنحية هذا الملف وتعميق الفجوة فيه وتأجيل البت بتسوية لا مفر منها. أما ان يكون لانتصار مقاومة الفلسطينيين في نتائج تلك الحرب تأثيرا في مجريات الرئاسة اللبنانية، فهذا ما يروج به كثيرون في المعسكر المؤيد لفرنجية وكأن مُخاصمي الرجل في المعسكر الإسرائيلي!
هنا ثمة أسئلة تبقى من دون إجابة: كيف سيترجم محور الممانعة انتصاره المأمول في غزة في فرض فرنجية رئيساً؟ ما هي الأدوات التي ستطرأ على المشهد اللبناني لذلك؟ وهل سيتغير الموقف الدولي من “مرشح “حزب الله”” والقبول برئيس لا يرضى عنه مثلما لا يريده الخليجيون؟ ثم هل سيحصل فرنجية على رضى الكتلة المعارضة الكبيرة في المجلس النيابي؟
الواضح حتى اللحظة بأن لا تغيير في الموقف الخارجي الوازن من ضرورة وصول مرشح ثالث خارج معادلة فرنجية وجهاد أزعور، لا بل أن التخلي الفرنسي الأخير عن فرنجية باتت العودة عنه أصعب بكثير بعد موقف باريس الأخير حيال أحداث غزة والمناوىء للمحور الذي تتزعمه إيران.
على ان المفارقة في هذا التهميش غير معلوم المدة للرئاسة مرده التقاطع غير المعلن على شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” أميركيا وإيرانيا!