كل أجواء الأمس كانت توحي بالقلق. أجواء المصارف، حال الناس، تنبؤات السياسيين، القريبين والبعيدين، السوداوية. حتى أجواء التشكيلة الحكومية لم تكن أكثر تفاؤلاً. وحده خبر زيارة مدير دائرة شمال افريقيا والشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو إلى لبنان موفداً من الرئيس إيمانويل ماكرون حرك المشهد المأزوم، سبقه تصريح وزير الخارجية الاميركي مارك بومبيو عن لبنان. اشارتان أعطتا الانطباع وكأن أزمة لبنان دخلت على خط المتابعة الدولية بعد أن كانت الدول الغربية وحتى الأمس القريب تكتفي بمراقبة الأجواء عن بُعد، مع التشديد بين وقت وآخر على حرية التعبير وحماية المتظاهرين.
لكن تصريح بومبيو كان أشد وضوحاً، حتى تسيّدت بضع كلمات قالها المشهد السياسي بما بني عليه في أبعاده ومعانيه. فتأكيد عزم بلاده “مساعدة شعوب العراق ولبنان على التخلص من النفوذ الإيراني وتحقيق تطلعاتهم” جاء ليؤشر إلى مسألتين أولاهما دخول الأميركي على خط الأزمة اللبنانية بشكل مباشر، والثانية أنّ الهدف من هذه “المساعدة” كما قال “التخلص من النفوذ الإيراني”.
وفق مصدر ديبلوماسي مطلع على الموقف الاميركي فان ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب “تميل أكثر نحو استخدام الضغط المالي وتعتبر الضغط العسكري مضيعة للوقت بدليل ما حصل في سوريا والعراق”، لاعتقادها أنّ الضغط المالي مؤلم وفعاليته أكبر وأسرع وتيرة. ويقول إنّ الأميركي يتجنب المبادرة إلى الفعل لكنه يسارع للبناء عليه والاستثمار فيه لمصلحته في السياسة، وليس خافياً على أحد أنه اتخذ قراراً بمواجهة إيران حيث وجدت “أدواتها” في المنطقة لا سيما في لبنان والعراق.
إذاً دخل لبنان فعلياً في أتون المواجهة الأميركية مع إيران من بوابة الضغط على “حزب الله”، ويشير المصدر الديبلوماسي في معرض تفسيره لكلام وزير الخارجية الأميركي إلى أنّ الأميركي ربما وجد ضالته في الأزمة الراهنة في لبنان ليحقق هدفه الذي يعمل عليه وهو إبعاد “حزب الله” عن المعادلة السياسية اللبنانية “أقله ظاهرياً”. فالولايات المتحدة كانت قد أدرجت “حزب الله” على قائمة الإرهاب وقررت مواجهته مالياً والتضييق عليه، بدأت بفرض عقوبات على بيئته الشيعية، لم تجدها ذات فعالية واسعة خصوصاً بعد تحذيرات المسؤولين من أن خطواتها تلحق الضرر بالاقتصاد اللبناني عموماً.
من المعلوم أنّ المطلب الاميركي كان ولا يزال يتمثل في إبعاد “حزب الله” عن الحكومة والتضييق على حلفائه السياسيين بمن فيهم “التيار الوطني الحر”. وحين تحرك الناس ضد الفساد والمحسوبية وانتشرت أعدادهم في الساحات، لم يكن الأميركي قد اتخذ موقفاً واضحاً بعد، اكتفى بدايةً بالتنبيه من خطورة الفراغ الذي إذا حصل برأيه فإنه سيؤدي إلى توسيع رقعة نفوذ “حزب الله”. استقالت الحكومة، فوجد فرصته في تضييق الطوق على “الحزب” الذي يدرك تماماً سعي الأميركي الحثيث لإحداث تعديل في موازين القوى السياسية، وهو أساساً يتحدث عن أجندة اميركية دخلت على خط الأزمة اللبنانية وأججت الوضعين المالي والسياسي في البلد.
واقع تتعاطى معه قوى الثامن من آذار بحذر لا سيما وأنّ لبنان دخل في عمق أزمة مالية واقتصادية قد يطول أمدها، وقد لا تتشكل حكومة في المدى المنظور. ذلك أنّ الطرف الأميركي بحسب مصدر رفيع في 8 آذار “يريد تطويق “حزب الله” ويشترط على سعد الحريري تشكيل حكومة من دونه ما يضع الأخير في حيرة من أمره خصوصاً وأنّ قوى الثامن من آذار أبلغته صراحةً أن لا حكومة من دونها ولو طال أمد التشكيل”.
وما بين أزمة مالية خانقة وأزمة سياسية أعمق، بات لبنان مفتوحاً على السيناريوات السوداوية، فالمصارف اختارت الإقفال اليوم والاثنين لحساسية الوضع وخطورة التماس مع الناس في المصارف بينما الوضع الاقتصادي والمالي يمرّ في أخطر مراحله حسبما يؤكد أهل الاختصاص. وبالنظر الى المؤشرات التي بدأت تتواتر عن دخول لبنان على ساحة الكباش الأميركي – الإيراني فهذا يعني أنّ الأزمة طويلة ألّلهم إلا في حال حصول تقاطع عربي – دولي حول اعتبار أنّ الفراغ الحاصل في لبنان لا يصب في مصلحته.
وهنا، يبدو مصدر الأمل الوحيد معلقاً في الوقت الراهن على الموفد الفرنسي الذي تربطه اتصالات بكافة أطراف الأزمة. فباريس التي أنقذت لبنان من أزمته مرات عدة قد لا تجد من مصلحتها تدهور أوضاعه أكثر، فهل نشهد تسابقاً أميركياً فرنسياً على الاستحواذ على ورقة لبنان أم تكامل أدوار ينقذ البلد من الفراغ القاتل؟.