لا شكّ في أنّ صورة الشرق الأوسط يلفّها الضباب. لم تكن إدارة دونالد ترامب قد حضّرت كيفية تعاملها مع مختلف الخيارات في إطار صراعها مع إيران. كانت تراهن الى حدّ الوثوق بأنّ وجع العقوبات سيدفع بالقيادة الإيرانية للدخول في المفاوضات، وأنها لن تجرؤ على التحدي. ولكن حصل العكس. صحيح أنّ طهران أرسلت إشارات تبدي موافقتها على الانخراط في مفاوضات غير مباشرة، ولكن ليس بأيّ ثمن.
كانت إيران تريد العودة الى ما قبل حزمة العقوبات الأشد التي أعلنت مطلع أيار لتنخرط في مسار تفاوضي وعبر قنوات سرية، لذلك اندفعت في تنفيذ تهديداتها بحراً في مضيق هرمز، وبراً في اتجاه السعودية وفي العراق، وجواً عندما بلغ تحدّيها الذروة مع إسقاط الطائرة الاميركية.
وفي المقابل بدت واشنطن فاقدة للحركة، فهي ليست بوارد الحرب أو المواجهة العسكرية المباشرة وهو ما تلعب على أساسه طهران، وهي لا تملك سوى سلاح العقوبات الذي يؤذي، ولكنه لا يغيّر واقعاً.
الضياع الأميركي دفع بترامب منذ أيام الى الهروب من المأزق مع إيران والحديث عن المريخ ورفع العلم الأميركي هناك. وهو ظهر مرناً على غير عادته في قمة الدول العشرين في اليابان، خصوصاً تجاه الصين عندما أعلن عزمه على السماح مجدداً للشركات الأميركية بتوريد معدات لشركة هواوي، وعدم فرض رسوم جمركية جديدة أو رفع الرسوم الموجودة حالياً على البضائع الصينية.
وفي المقابل، غضّت واشنطن نظرها عن إعلان إيران وصول ناقلة نفط لها الى الصين. كل ذلك صحيح، ولكنه غيرُ كافٍ لتراجع التوتر الحاصل مع إيران. وترامب الذي تفصله مدة طويلة نسبياً عن موعد فتح صناديق الاقتراع كبّل يديه بمواقف لا يستطيع العودة عنها، وفي المقابل إيران لا تستطيع الانتظار تحت وطأة العقوبات وتريد فكّها. ولأنّ الصورة هي بهذا القدر من التعقيد إضافة الى وقوع ادارة ترامب أسيرة مواقفها وقراراتها، اندفعت طهران في طريق الضغط على أوروبا للعودة الى وضع ما قبل أيار. هي تريد تصديراً للحدّ الأدنى المطلوب لنفطها.
أما رفع مستوى التخصيب فرسالة موجّهة الى أوروبا لكي تتحرك خارج الضغط الاميركي.
ذلك أنّ اوروبا، خصوصاً فرنسا والمانيا، تدرك أنّ خروجها من الأسواق الإيرانية استجابة للضغوط الاميركية، سيبقيها خارجاً حتى بعد إعادة ترتيب العلاقة لاحقاً بين واشنطن وطهران.
والاقتصاد الأوروبي في حاجة ماسة الى الاسواق والاستثمارات الإيرانية، وطهران تلعب على هذا الوتر، فإما دخول أوروبي أفضل على خط الاتفاق النووي أو خروج إيران منه. وهذا ما دفع بالرئيس الفرنسي لطلب مهلة لمدة اسبوع خلال اتصال الساعة الكاملة مع الرئيس الإيراني.
في المقابل تضغط إسرائيل بشكل كبير لزيادة المواجهة مع إيران، خصوصاً عبر ضرب امتداداتها في سوريا ولبنان.
وهي تقول إنّ إيران ستعمد الى الانسحاب الكامل من الاتفاق النووي قريباً والتوجّه لإنتاج السلاح النووي، وبالتالي يجب ردعها الآن. ونُقل عن مدير الدائرة السياسية والعسكرية السابق في وزارة الدفاع الاسرائيلية الجنرال عامو جلعاد أنّ كل مَن يراهن على دور العقوبات لدفع إيران للتخلّي عن حلفائها في المنطقة، لا يعي طابع التوجهات الإيرانية.
واضاف أنّ طريقة تعامل ترامب مع كوريا الشمالية وعدم تردّده في عقد لقاءات مع قائدها، يشجّع الإيرانيين على التحدي بهدف العمل على تأمين مكانة مماثلة، وأشار الى أنّ القيادة الإيرانية لا تنوي الاستسلام.
في الواقع هنالك قناعة لدى بعض العواصم بأنّ إيران وجدت أنّ الاسلوب الكوري الشمالي في تحقيق النتائج كان أفضل، حيث طوّرت صواريخ قادرة على حمل رؤوس حربية تطال الاراضي الاميركية، ومن ثم ذهبت الى التفاوض وهي ربما تريد استنساخ الأسلوب الكوري الشمالي.
المهم أنه حتى الآن فإنّ المواجهة الاميركية- الايرانية لن تحصل إلّا عبر «التويتر».
وأنّ الحرب بالواسطة أو بالوكالة، هي الأكثر ترجيحاً في ظل وجود ساحات عدة. وخلال الاسابيع الماضية عادت الساحة العراقية الى الضوء عبر الاعلان الاميركي أنّ جنوب العراق شهد انطلاق طائرات من دون طيار استهدفت السعودية. وتلا ذلك اعلان الحكومة العراقية ضمّ الحشد الشعبي، وذلك قبل اسابيع معدودة من زيارة رئيس الحكومة العراقية لواشنطن حيث سيلتقي ترامب، ولكن مع تسجيل أنّ اجتماعاته في البنتاغون ستكون الأهم.
لكن إيران لن تجاري واشنطن في تصعيدها في العراق وهي ليست قلقة من كل ذلك، وتعتبر أنه ما زال تحت السقف المرسوم.
فالحشد الشعبي قوي ولديه وزراء في الحكومة و48 نائباً في مجلس النواب المكوَّن من 329 نائباً، وينتشر في كل المحافظات مع عديد يتجاوز الـ 140 الف مقاتل.
وهنالك الساحة اليمنية التي شهدت كلاماً على انسحاب إماراتي منها وهي التي تتولّى المنطقة الجنوبية من اليمن، في مقابل تولّي السعودية شمال اليمن.
والأرجح أنّ إيران التي تجد نفسها مرتاحة جداً في اليمن ستسعى لرفع السخونة والانتقال الى وضع هجومي شمالاً خلال الاسابيع القليلة المقبلة في إطار ضغطها المضاد، حيث تستخدم الجبال الشاهقة (اكثر من ثلاثة آلاف متر) لإطلاق الطائرات. كما أنّ الهجمات الحوثية على مطارات ومنشآت حيوية سعودية أصبحت خبراً شبه يومي، والأرجح انها ستزيد وستشتد.
تبقى الساحة السورية والتي ستستخدمها واشنطن في إطار الضغط المضاد على إيران. فعدا ناقلة النفط الإيرانية المتوجهة الى سوريا التي احتجزتها بريطانيا في إطار تعاونها مع واشنطن، فإنّ نتائج الاجتماع الثلاثي لرؤساء الامن القومي الاميركي والروسي والاسرائيلي في القدس بدأت تباشيره تظهر في شرق سوريا، فالحساسية الروسية- الايرانية بدأت ترتفع لتصل الى توتر ميداني في بعض الأحيان، إضافة الى التزاحم على السيطرة على مفاصل النظام.
تريد إيران سكة الحديد من ميناء الخميني في إيران وصولاً الى ميناء اللاذقية عبر العراق ودير الزور في سوريا. لكن روسيا رفعت درجة حضورها في منطقة دير الزور ما يهدّد التواصل المطلوب لسكة الحديد. مع الاشارة الى أنّ لموسكو عقد إيجار لمدة 49 سنة لمرفأ طرطوس.
ولبنان لم يشذّ عن هذا المسار حيث أعادت واشنطن حرارة تواصلها مع القوى التي شكّلت سابقاً مجموعة 14 آذار، وخصوصاً وليد جنبلاط. هي أعادت وضع غطائها من جديد بعد فترة إهمال، وهو ما استفاد منه جنبلاط في مواجهته الاخيرة، لكن واشنطن تدرك أنها قد تحتاج مستقبلاً الى ضغط سياسي بدرجة محددة ضد «حزب الله»، لا صراعاً مفتوحاً كما بقية الساحات. فالاستقرار في لبنان يبقى أولوية ولو مع رفع مستوى سياسة الضغط على «حزب الله».