لم يرمِ دونالد ترامب المفتاح في البحر عندما أقفل الباب أمام القيادة الإيرانية.. بل وضع ذلك المفتاح في مكان قريب منه بانتظار خطوات من الجهة الأخرى تسمح بإعادة «تدوير» القفل والسياسات والعقوبات.
وصحيح أن إعلانات ومواقف متناقضة تخرج من عند إدارة الرئيس الأميركي والقريبين منها ومن توجهاتها إزاء إيران، لكن الصحيح أكثر هو أن تلك التناقضات لا تخرج عن سياق موحّد أساسه وعنوانه التصدّي لما تفعله إيران، ومواجهة شططها وغلوائها وتطرّفها وشرورها، وأن هذا استدعى ويستدعي وسيستدعي تكتيكات غير عنفية وغير حربية وغير أمنية. وهذه في حسابات صنّاع القرار الأميركي كافية لتحقيق هدف مُعلن ومبهم في آن واحد، هو «تغيير سلوكيات النظام» في طهران وليس إسقاطه!
وليس صعباً الاستنتاج المبني على ما يُرى ويُسمع، بأن الإجراءات والخطوات التي باشرها الرئيس الأميركي في شأن الاتفاق النووي ورزمة العقوبات المُستعادة والمُشدّدة، سبّبت صدمة لصنّاع القرار الإيراني.. وهذه أنتجت إضافات على توترات داخلية قائمة بالفعل على المستويين السياسي والسلطوي، لكن الأخطر من ذلك، هو أنها نفّست احتمالات انفكاك أطواق الأزمات المتراكمة اقتصادياً وتنموياً وأحبطت آمال الذين انتظروا طويلاً قطار الانفراجات، فعاد هذا من السكة.. إلى الخلف!
وما هو واضح في التكتيك الصدامي الراهن، أن واشنطن تُسقط ورقة التجييش المضاد من أيدي قادة طهران، وتتصرف بذكاء: تخاطب عموم الإيرانيين من باب «الحرص» عليهم وعلى مصالحهم وثرواتهم «التي يبدّدها النظام»، وتمتنع عن أي عمل أمني أو عسكري مباشر يمكن أن يحمل مقوّمات إهانة لـِ«الأمّة الإيرانية» الحسّاسة في كل حال إزاء القضايا والشؤون القومية العامة.
وصانع هذا التكتيك لن يعضّ أصابعه ندماً إذا ما أوصلت إجراءاته وقراراته الناعمة، الوضع الإيراني إلى نقطة اللاعودة.. وإذا انفجرت إيران من داخلها وراح النظام إلى خيارات الصدام المباشر مع أهله دفاعاً عن وجوده.. لكن الواضح (والله أعلم!) هو أنّ ذلك الصانع الأميركي لا يزال حتى الآن يقول (علناً على الأقل) إنه يريد، مثله مثل سائر شعوب وأمم ودول المنطقة والعالم بأسره، رؤية تغيير جوهري وجذري في السياسات الإيرانية الخارجية. مثلما يريد ضمان استحالة حصول نظام «الوليّ الفقيه» على سلاح الدمار الشامل.
عندما فكّ ترامب التزام واشنطن بـ«الاتفاق النووي» قال بوضوح إنه يريد اتفاقاً آخر «جيداً».. والجودة هنا تعني النووي وغير النووي في رزمة شاملة. وأول ذلك الأدوار (والأدوات) الخارجية التي تعتمدها قيادة طهران وتسبب أينما حلّت أو تحاول أن تحلّ، أزمات كبرى تهدّد الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين.. أي أنه (ترامب) وضع عصا العقوبات والحصارات على الطاولة، ووضع إلى جانبها جزرة تدلّ إلى العكس. وفي الخيارين يبدو جديّاً ومستعداً تمام الجد والاستعداد للذهاب إلى الذروة سلباً أو إيجاباً.
وهو ذاته المبدأ التي اعتمده إزاء كوريا الشمالية ونجح (حتى الآن). سوى أن «النجاح» في كوريا تم ويتمّ بإرادة موازية ذاتية رضائية من قبل كيم جونغ أون مدعوماً براعيه الصيني.. فيما «النجاح» في إيران تم ويتم من خلال بدء تدحرج أحجار دومينو الأزمات، واحداً تلوَ الآخر!
في كل الأحوال، يطرق الإيرانيون أبواب أوروبا والصين وروسيا، مع أن المفتاح في يد الأميركيين وحدهم، ومع أن الجميع في طهران يعرف أن التغيير المطلوب من الخارج، يبدأ من الداخل.. ولم يفت الأوان بعد!