من يقرأ التاريخ الإيراني منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم يعرف، دون التباس، أن هناك إرثاً حقيقيّاً من خيبات النخب الإيرانية الوطنية، العلمانيّة الليبراليّة والدينيّة واليساريّة، تجاه السياسات الغربية، البريطانية ثم الأميركيّة ونسبيا الروسية. خيباتٌ ناتجةٌ عن شعور عميق بالمهانة سبّبتها هذه السياسات طويلاً للعنفوان الوطني الإيراني.
الأدبيات الإيرانية والدراسات حولها منذ العقود الأخيرة للسلالة القاجارية المحتضرة بين أواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين… هذه الأدبيات حافلة بالأحداث التي تقوم على شعور رئيسي طاغٍ لدى هذه النخب هي إهانة الغرب الطويلة للكرامة الوطنيّة الإيرانية… في بلدٍ هو، للتذكير، أحد أعرق “الدول – الأمم” في القرون الأخيرة ولكنّ تاريخه هو جزء عميق، مثل العرب والأتراك، من الخسارة الحضارية المتمادية للعالم المسلم تجاه تقدّمِ الحضارة الغربية المستمر في القوة والثقافة والعلوم.
لهذا استخدم محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، وهو يعلن في لوزان أمس عن الوصول إلى “اتفاق إطار” بين إيران والدول الكبرى ضمن صيغة 5+1… استخدم كلمتي “الفخور” عن الشعب الإيراني و”الكرامة” عن الموقف الإيراني في التفاوض. هاتان الكلمتان ليستا كلمتين فارغتين في الوعي الوطني الإيراني الذي حاولت السياسات الإيرانية في مرحلة ما بعد نجاح الثورة الإسلامية تمثيله واستخدامه في آنٍ معا على مدى أكثر من ثلاثة عقود ونصف العقد ربما تكون نهايتها قد بدأت مع تفاهم لوزان أمس.
لكنْ لهذه الحقيقة وجهٌ آخر في مسار إيران بعد العام 1979 يتعلّق بتحوّلات النخب والجماهير معاً.
منذ النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين كان يمكن لأي زائر يتردّد بين الحين والآخر على إيران (وفي حالتي بضع مرّات بين 1979 و2003) أن يلاحِظ تنامي شعور قطاعات واسعة جدا لاسيما الشباب والنساء في المدن الكبرى بأن النظام الديني وسياساته، خصوصاً الداخليّة، بالغَ في سياسة قطع إيران عن العالم الغربي بالمعنى العميق والمتعدّد للقطع: الثقافي والعلمي والحياتي ناهيك عن الاقتصادي والسياسي. في التسعينات كان مايكل جاكسون ومادونا الإسمين الأهم اللّذيْن ينسخ الشباب الإيراني اسطواناتهما بالملايين بشكل سري أو شبه سري. ربما الآن تغيّرت شعبية جاكسون ومادونا لكن بالتأكيد ليحل مكانهما أو إلى جانبهما نجوم أميركية وغربية جديدة، لن يبخل مئات آلاف الإيرانيين المهاجرين في لوس أنجلوس وباريس ولندن ونيويورك بإرسال نتاجها إلى أقربائهم الشباب في طهران وشيراز وأصفهان وغيرها. عدا ذلك لم يتوقّف جيلٌ جديدٌ من الكتاب الإيرانيين، نساءً ورجالاً ولا سيما النساء، في الغرب عن كتابة تجاربهم الاجتماعية ومعاناتهم مع المحافظة الاجتماعية الخانقة ولو المتراخية قليلاً في السنوات الأخيرة. وبالمناسبة كان بعض آخر هذا النوع من النتاج كتابٌ ذو عنوان اعتراضي معبِّر لكاتبة إيرانية مقيمة في باريس هي أبنوس شلماني صدر مؤخرا في باريس عنوانه: “خميني، ساد وأنا” (تقصد طبعا الماركيز دو ساد الشهير) وقبل سنوات قليلة كتاب “كاميليا – سيرة إيرانية” للصحافية المعارضة المقيمة الآن في الغرب كاميليا انتخابي فرد وغيرها الكثير الكثير من الكتب التي تروي تجارب شخصيّةً سياسية واجتماعية مع النظام وبينها في السجون كحالة كاميليا وبينها في المجتمع كحالة أبنوس شلماني التي تبدي اهتمامها بتجربة الشابة المصرية علياء المهدي التي تعرّت من ثيابها احتجاجا على قمع المرأة في ذروة سيطرة “الإخوان المسلمين” على الحياة السياسية في مصر بعد ثورة ميدان التحرير.
إذن هؤلاء المتظاهرون في شوارع طهران الذين ظهروا محتفلين بالتفاهم الإيراني الغربي الممهِّد لاتفاق لاحق تفصيلي ليلة أمس الأول وبينهم رجال أعمال وطلاب جامعيّون يعبّرون عن حاجة عميقة محتقنة في جوف مجتمع، يجب أن ننتبه نحن العرب، إلى قابليات جزء مهم دائما من نخبه المدينيّة للانخراط بالثقافة الغربية وبنمط الحياة الغربية وهو الوجه الإيراني الذي قمعه النظام الديني طويلاً مثلما قمع نظام الشاه طويلاً أيضاً الوجه الآخر لهذا المجتمع وهو الثقافة الدينية الإسلاميّة (الشيعية). حتى يمكن القول أن نظام الشاه سقط من هذا الاختلال بين الوجهين الديني والحداثي لصالح الحداثي فيما يولد التوجّه “الغربي” الجديد للنظام من الاختلال نفسه ولكنْ بوجهه المعكوس لصالح الديني.
كلا الوجهين هما إيران. فالنظام في ذروة قمعيّته السياسيّة والاجتماعيّة لديه قاعدة شعبية كبيرة متماسكة بين عشرة إلى عشرين بالماية من المجتمع وهذه قاعدة كبيرة لا تقل عن عشرة ملايين إلى خمسة عشر مليونا من أصل حوالي 75 مليوناً. قاعدة اجتماعية منظمة تمكِّنه من ضبط هذا المجتمع.
لكنْ هناك دائماً إيران المتطلّعة إلى حداثة غربية. وبعض تياراتها، كما في تركيا، يعتبر الاهتمام بالعالم العربي استنزافا لجهود على حصان خاسر. لهذا ينبغي علينا نحن العرب أن نكون ليس فقط مراقبين لهذه النزوعات الإيرانية (والتركية) بل أيضا حذرين حيال ما يمكن أن تسفر عنه مستقبلاً. كذلك علينا أن نكون متفهّمين، أبعد من السياسة المباشرة للنظام، إلى ضرورة بناء تفاعل جاد ومتعدد المستويات مع الجيل الإيراني الشاب. إنه جيلٌ لا أظن في زمن العولمة أن اهتماماته بعيدة، خارج السياسة السياسية، عن اهتمامات وتطلعات الأجيال الجديدة في القاهرة وبيروت واسطنبول والدار البيضاء والرياض وغيرها.
حتى منتصف العقد الأول من هذا القرن كان الإيرانيون الأكثر استعمالاً للإنترنت في الشرق الأوسط بما يتجاوز حتى إسرائيل بمعايير عدديّة نسبيّة دون تجاهل القدرة الإسرائيلية النوعية في الانتاج البرامجي المعلوماتي وبينها الصناعة العسكرية وخصوصا في مجال تطوير بعض أنواع الطائرات الحربية مما استدعى سابقاً استعانة دول مثل تركيا والبرازيل والهند بهذه الخبرات.
نحن إذن أمام مجتمع يتلهّف للخروج من العزلة أكثر مما بات نظامه يتلهّف. وإذا انطلقت هذه الديناميكية مع الغرب فقد نشهد مفاجآت هائلة في المستقبل. لكنْ علينا في لحظة كهذه، لحظة التفاهم الإيراني الغربي على الملف النووي، وكلاهما اعتبره تاريخياً، أن لا ننسى أننا أمام سيناريووَيْن شهدهما التاريخ الحديث:
سيناريو انهيار النظام السوفياتي تحت ثقل الانفتاح وسيناريو ازدهار الصين بالتكيّف الخلّاق مع الانفتاح على أساس تغيير النظام الاقتصادي دون تغيير النظام السياسي. أي سيناريو إيراني بين الاثنين وهل هناك سيناريو ثالث بل هل في طاقة إيران، وهي في النتيجة على كل أهمِّيتِها دولة متوسّطة الحجم، أن تُحدِثه؟
لو كان “صانعُ قرار” عربي سيسألني رأيي في هذه اللحظة لقلت علينا أن نرصد ونعرف غير المعلن “الثقافي” في الرؤية الغربيّة لهذا التفاهم. شيء عميق يحصل.