الطرف الأكثر جدّية في التعاطي مع واشنطن هو «حزب الله». هو يدرك مغزى رسائلها وما يمكن أن تقود إليه. أما الآخرون من طاقم السلطة، فبعضُهم يختبئ وراء «الحزب» ويزايد في «المقاومة» عن خُبثٍ منه، وبعضُهم الآخر «بايِع الدنيا بِقِشْرة بَصلة» ولا هَمَّ له سوى الكرسي. وبهذه المهزلة- المأساة يواصل البلد انزلاقه نحو الخراب!
كل المناخات التي أوحت، في الأيام الأخيرة، بوجود حلحلة معينة في الوضع اللبناني ليست في محلِّها. والمراهنة على بعض مؤشرات تبادل المساجين أو المعتقلين بين الولايات المتحدة وإيران، للحديث عن ملامح صفقة وشيكة، لا ترتكز إلى أسس حقيقية.
فلا واشنطن اقتنعت بأنّ إيران قد باتت ضعيفة إلى الحدّ الذي يدفعها إلى الرضوخ لاتفاق جديد. ولا طهران اقتنعت بأنّها خسرت هوامش المناورة نهائياً. ولذلك، المعركة اليوم في ذروتها بين الطرفين، ولبنان هو إحدى ساحات هذه المعركة.
وفي اعتقاد العديد من الخبراء، أنّ هذه المعركة لم تعد سياسية – اقتصادية – مالية فحسب، تدور رحاها على امتداد مناطق النفوذ الإيرانية بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت، بل هي تتخذ طابعاً عسكرياً أيضاً، خصوصاً منذ كانون الثاني الفائت، أي منذ اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني.
والأرجح أنّ إسرائيل تنخرط في الصراع وتأخذ على عاتقها جانباً من هذه المواجهة الساخنة، من خلال الضربات المتلاحقة التي تقوم بتسديدها إلى الأهداف الإيرانية في سوريا، من دون اعتراض دولي.
وفي السياق، ثمة من يطرح أسئلة عن هوية «الأيدي الغامضة» التي تقوم باستهداف المنشآت العسكرية والصناعية والنووية في إيران، منذ حزيران الفائت، والتي شملت بشكل عنيف منشأة «نطنز». فهل تنخرط فيها إسرائيل أيضاً، وفق ما أشارت إليه بعض التقارير؟
أما في لبنان، فما يثير القلق هو التقرير الذي تمّ نشره في إسرائيل أخيراً، ويتضمن خرائط يقول إنّها لمواقع صواريخ «حزب الله» الدقيقة التوجيه في لبنان. وجاء في التقرير، أنّ هذه الصواريخ منشورة بين بيروت والجنوب والبقاع، بين المنشآت السكنية والصناعية والتجارية والرياضية.
ويصبح هذا التقرير أشدّ خطراً عندما يتزامن مع «التحرّش» الإسرائيلي المتوقع بمخزونات الغاز اللبنانية في البلوك 9، ومع الانتقاد الإسرائيلي والأميركي لما اعتُبِر تراخياً لبنانياً رسمياً في ضبط نشاط «حزب الله» في مناطق عمل «اليونيفيل»، وعدم حمايتها لتتمكن من أداء مهماتها. وتالياً، إعلان واشنطن عزمها على تعديل مهمات هذه القوات قبل التمديد لها، الشهر المقبل.
إذاً، هذا هو الإطار الحقيقي لأزمة لبنان الاقتصادية والمالية والنقدية. و«حزب الله» يدركه جيداً. وإذ يفاوض لبنان الرسمي صندوق النقد الدولي، بتغطية من «الحزب»، فهو يدرك أنّه يفاوض الولايات المتحدة، صاحبة القرار الأول في هذا الصندوق.
وأما المحاولات الأخرى لاستدرار المساعدات من فرنسا أو الخليجيين العرب، كالكويت مثلاً، فواضح أنّها أيضاً ستبؤ بالفشل، لأنّ الجميع يرهنون المساعدات بالضوء الأخضر الأميركي. وفقط، الباب مفتوح لـ«كراتين الإعاشة»، وبشكل مضبوط ومحدَّد. وأما واشنطن فمواقفها واضحة، ولاسيما في الرسالتين اللتين وجّهتهما أخيراً:
الرسالة الأولى المباشرة نقلتها السفيرة دوروثي شيا إلى رئيس الحكومة حسّان دياب في لقائهما الأخير، وفيها التأكيد مجدداً على أنّ لا مساعدات إلّا بعد الإصلاحات الجدّية. وحتى ذلك الوقت، لا بأس بمساعدات إنسانية محدّدة.
فواشنطن تلتزم تقديم 13 مليون دولار وعدت بها، ولكن لا دور للسلطات اللبنانية في توزيعها على العائلات. ويُفهَم من ذلك، أنّ الأميركيين لا يثقون إطلاقاً في المسؤولين اللبنانيين.
أما في ما يتعلق بالمساعدات المالية، فكانت السفيرة واضحة: التزموا الإصلاحات أولاً واتفِقوا مع صندوق النقد الدولي. ثم أَبلِغونا بصيغة الاتفاق لنقول كلمتنا.
وأما الرسالة الثانية فكانت إجمالاً غير مباشرة وذات طابع رمزي، حملَها قائد المنطقة الوسطى الجنرال كينيث ماكنزي. فالرجل افتتح زيارته المقتضبة، في المطار، بتكريم ذكرى ضحايا المارينز العام 1983. وهذا الأمر له مغزى عميق.
ثم زار بعبدا، فاليرزة، حيث النصب التذكاري تكريماً للضحايا من الجنود الأجانب أيضاً. وتردَّد أنّ الرجل لم يناقش مع رئيس الجمهورية ميشال عون أي مسألة، بل اكتفى بالتعريف بموقعه كقائد للمنطقة الوسطى، وقال: أردتُ فقط أن تكون زيارة تعارف.
إذاً، هذه الرسائل تحمل مضامين حسّاسة في التوقيت اللبناني الصعب، وخلاصتها ما يأتي: مهما انحدر لبنان في الهاوية، فإنّه سيُترَك من دون مساعدة حتى يلتزم الإصلاحات ويُخرج نفسه من تحت النفوذ الإيراني.
هل سيتجاوب أصحاب السلطة مع هذا الشرط لإنقاذ لبنان أم يتصدّون له «انتحارياً»؟
حتى الآن، «حزب الله» يعتمد المواجهة، لأنّ معركة إيران مع واشنطن مستمرة. وأما شركاؤه في السلطة فضائعون. إنّهم إجمالاً يضعون «رِجْلاً في الفِلاحة ورِجْلاً في البور»، لعلّهم يحظون برضى «الحزب» ولا يُغضِبون الولايات المتحدة.
ولذلك، هم يعتمدون سياسة «التطنيش»، لعلّ الوقت يتكفّل بحلّ المشكلة. لكن «التطنيش» ربما يقود إلى مزيد من الانهيارات، وقد يكون قاتلاً، لهؤلاء وللبلد كله.