بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اختصرت واشنطن أهدافها الشرق أوسطية بحماية إسرائيل واستمرار تدفق البترول إلى العالم، وعلى الأخص الدول الحليفة. وهذا يعني حماية الممالك والإمارات والمشايخ العربية في الخليج، بالأخص بعد خروج بريطانيا من هذه المنطقة.
اليوم، بعدما طرأ التطرف والإرهاب على الساحة السياسية، اختلط الحابل بالنابل في تفسير السياسة الأميركية في المنطقة. تتمنى واشنطن إنهاء الإرهاب، لكنها ترفض الخوض في حروب تعجز عن رسم طريق خروج سليمة منها، بينما حلفاؤها في أوروبا والمشرق يتمنون ـ لا بل يريدون منها ـ أن تنصرهم على خصومهم أياً يكن الثمن والعواقب.
كل ذلك بسبب الإمكانات الكبيرة، العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة، التي هي من دون شك القوة الأكبر في العالم، كما يتبين من مقارنة مع بعض دول مجموعة الثماني. يتطلب حلف شمال الأطلسي من كل من أعضائه الثمانية والعشرين (عدد الدول المؤسسة للحلف كان 12 في العام 1949) أن يخصص كل منها لشؤون الدفاع 2% من دخلها القومي. لكن، من الدول الأوروبية الـ26 في الحلف، واحدة فقط، بريطانيا، تنفق على دفاعها النسبة المئوية المطلوبة، وبعض دول الحلف لا تزيد موازنتها الدفاعية عن 1%. الولايات المتحدة تخصص حوالى 4,5% من دخلها للشؤون الدفاعية والأمنية.
نظرة سريعة إلى أرقام الدخل القومي لهذه الدول من خلال إحصاءات البنك الدولي لعام 2014، تشير إلى أن الدخل القومي للولايات المتحدة بلغ 17,4 تريليون دولار، وعدد سكانها 318,9 مليون نسمة، بينما الدخل القومي لدول الاتحاد الأوروبي الـ28 مجتمعة بلغ 18,5 تريليون دولار وعدد سكان هذه الدول حوالي 508,3 مليون نسمة. كذلك فإن الدولة الثانية عالمياً هي الصين التي يصل دخلها القومي إلى 10,1 تريليون دولار وعدد سكانها حوالى 1,3 مليار نسمة، بينما الدولة الأولى في الاتحاد الأوروبي والرابعة دولياً، ألمانيا، يبلغ دخلها القومي 3,8 تريليون دولار. للمقارنة، يبلغ الدخل القومي لروسيا 1,9 تريليون دولار وعدد سكانها 143,8 مليون نسمة.
في ما يتعلق بالحرب الراهنة ضد «داعش» في العراق وسوريا، قامت دول التحالف مجتمعة منذ بدء العمليات الجوية لغاية منتصف كانون الأول الماضي، بنحو تسعة آلاف غارة جوية، منها سبعة آلاف ـ حوالي 78% ـ قامت بها الولايات المتحدة منفردة.
رغم هذه القوة العظيمة، لم تستطع أميركا حل مشاكل الشرق الأوسط؟ للقوة حدود. ماذا فعلت مثلاً مع إسرائيل الرافضة كل أنواع الحلول والتسويات؟ هل ترسل جيشها لإنهاء «داعش»؟ ماذا عن حرب اليمن اللاإنسانية؟ ماذا عن كوريا الشمالية المتمردة على النظام العالمي؟
أرسلت واشنطن جيوشها إلى العراق وأفغانستان واحتلتهما. ماذا بعد؟ الأميركي «نفسه قصير» لا يريد أن يستعمر تلك البلدان كما كان يفعل الأوروبيون في الماضي. اعتقد بعضهم أن الانتخابات تسمح لهم بالخروج السليم، وذلك من دون أن يدركوا أن الانتخابات في بلدان المشرق هي عملياً غطاء ديموقراطي لديكتاتورية الأكثرية، كما حصل واقعاً في العراق وأفغانستان وحتى في لبنان. يشرّع الحاكم في بلادنا بقاءه في الحكم من دون محاسبة، ويا للأسف، بتأييد أميركي وأوروبي، والتغيير دائماً عسكري ودموي.
لهذه الأسباب وغيرها، لم ولن ترسل واشنطن قوات برية إلى ليبيا وسوريا، ولن ترسل قواتها لمحاربة «داعش» و «القاعدة» في العراق وسوريا. هذه سياسة واشنطن وليست فقط سياسة الرئيس باراك أوباما. «الرئيسة» هيلاري كلينتون أو «الرئيس» دونالد ترامب، المرشحان الأولان اليوم لكل من الحزبين بحسب الاستقصاءات، لن يغيرا هذه السياسة. ستبقى السياسة الأميركية مركزة على احتواء «داعش» وإضعافه، وشل قدراته على شن هجوم مشابه لـ11 أيلول 2001 على أميركا، وللحد من توسعه إلى الدول المجاورة.
وفي ما يتعلق بأوروبا، فهذا شأن أوروبي محض. أما دور واشنطن وواجبها، فهو أن تساعد هذه الدول إذا شاءت أن تساعد نفسها. مثلاً: أوقفت واشنطن التنصت على أوروبا بعدما تسرب أنها تتنصت على قياداتها. لكن بعد حوادث 13 تشرين الثاني الماضي في باريس وانعكاساتها، أعادت واشنطن أعمال التنصت بطلب أوروبي.
في ما يتعلق بلبنان، الذي يستفيد أيضاً من التنصت الأميركي على المنطقة، فإن واشنطن معنية وغير معنية في الوقت نفسه بانتخاب رئيس وقانون انتخاب جديدين. تريد واشنطن من مجلس النواب أن ينتخب رئيساً في أسرع وقت ممكن. لكن يبدو واضحاً أنها تعتبر ذلك مسؤولية لبنانية صرفة. إذا اتفق اللبنانيون على مرشح أو طامح إلى الرئاسة يباركونه، كما اعتقدوا أنه حدث مؤخراً.
لا فيتو أميركيا على أي ماروني.
ربما حان الوقت لشعوب هذه المنطقة ودولها ومنها لبنان تحمل مسؤولية مصيرهم ومستقبلهم. وبدلاً من زيادة العداء في ما بينهم كما يحصل راهناً، عليهم أن يتحاوروا لحل مشاكلهم المستعصية، لأن أياً من واشنطن وموسكو، وطبعاً أوروبا، لا يستطيع ـ أو ربما ليس من مصلحته ـ حل المشاكل بين العرب والمسلمين على نحو نهائي.