لبنان في حقبة ما بعد براءة ترامب واندفاعة استراتيجيته الكبرى
عقلية سيّد البيت الأبيض لا تستسيغ الذهاب إلى الحرب… فالتفوّق الأميركي يقلب المعادلات ويحقِّق النتائج المرجوَّة
جاء وَقْعُ خلاصة تقرير المحقق الخاص بشأن التدخّل المحتمل لروسيا في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016 مضاعفاً بمفاعليه الإيجابية على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ذلك أن التحقيق، الذي استغرق إنجازه عامين من الزمن، جرى استخدامه بقوّة من قبل الحزب الديموقراطي في وجه ترامب، ولعِبَ الإعلام الأميركي دوراً بارزاً في الحملة التي ألقت، على النصف الأول من ولاية سيد «البيت الأبيض»، ظلالاً من التشويش والتشكيك والعرقلة وشلّ عمل الإدارة.
التوجّه الذي ساد من قِبَل خصوم ترامب، في الداخل والخارج، هو أن التقرير سيُحدّد مصير الرجل. وذهبت الرهانات، الممزوجة بالتمنيات، إلى أن حالة من التخبّط الكبير تنتظره، ما سيضطره إلى مزيد من المساومات الداخلية وسيُكبّل عمله في النصف الثاني من الولاية، ويُضعفه عشية بدء التحضير للحملات الانتخابية التمهيدية للولاية الرئاسية المقبلة.
تقرير مولر خلص إلى عدم وجود أدلة تُثبت تعاون أو تواطؤ فريق حملة ترامب مع موسكو للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية. خلاصة أزاحت «غيمة سوداء» من فوق الرئيس – وفق وصف «ترامْبيّون» – لكنها كانت محاولة «انقلاب أبيض» من الحزب الديموقراطي وقادة المؤسسات الاستخباراتية الأميركية على نتائج الانتخابات. ترامب قال إن «التحقيق خيانة عظمى ومحاولة غير قانونية للإطاحة بإدارته وبلاده»، وهذا الموقف سيطوّره مع إطلاق مهرجانه الانتخابي الأول المرتقب في ولاية ميتشيغن. والترجمة العملية لقوله أنه «يجب ألا نسمح أبداً بتكرار أعمال الخيانة العظمى هذه مع رئيس آخر»، تعني حسب عارفيه، أن عملية التطهير لا بدّ منها على مستوى قيادات الأجهزة الاستخباراتية في البلاد، وكذلك لا بدّ من الردّ القانوني والقضائي على كل تلك المرحلة وأهدافها.
كان يُفترض أن يكون التقرير «ورقة» ضد ترامب بعد كل الاتهامات التي طاولته بالتواطؤ، فإذا به اليوم – أي التقرير – ورقة قوية بيده في مخاطبة جمهوره وحتى جمهور خصومه السياسيين. في المحصلة، خرج الرجل أقوى، وأعطته «البراءة» مزيداً من الزخم سيُراكِم عليه للمضي بقوّة، ليس فقط في استكمال أجندته الأميركية الداخلية، بل والخارجية أيضاً، من فنزويلا التي أضحت الملف الذي يتمتع بالأولوية، إلى إنجاز الاتفاق مع كوريا الشمالية حول نزع سلاحها النووي، مروراً باستكمال استراتيجيته حيال إيران عبر سلاح العقوبات الاقتصادية لوقف تمددها في المنطقة وإعادتها إلى داخل حدودها، وإضعاف نفوذها وتأثيرها السلبي عبر أذرعها العسكرية التي تزعزع الأمن والسلام في المنطقة وتؤجج النزاعات، وصولاً إلى حل نهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال إطلاق خطته لتحقيق عملية السلام في الشرق الأوسط.
في قراءة منظري ترامب لاستراتيجيته حول المنطقة، فإن المسار يتجه وفق ما هو مخطط له. العقوبات المفروضة على إيران وأذرعها العسكرية ماضية قدماً وتعطي ثمارها، وستتواصل بقوة، ولن تتهاون واشنطن مع أي محاولات لضربها أو للالتفاف عليها، لأن فشل هذا السلاح الاقتصادي سيكون الذهاب إلى حرب لا تستسيغها عقلية ترامب أساساً. التفوّق العسكري القادر على أن يقلب المعادلات على الأرض هو رادع حتى لا يُستسهل خيار الحرب. وسلاح العقوبات هو وسيلة ضغط لتحقيق النتائج المرجوة منه من دون استخدام السلاح العسكري كملاذ أخير، ليأتي الانتعاش الاقتصادي المكافأة المُنتظرة للأنظمة كي لا تنهار.
فـ «المعادلة الترامبية الذهبية» القائمة على سياسة العصا والجزرة، تفعل فعلها، مهما كان الكلفة كبيرة. قوة الدفع الجديدة التي حظي بها ترامب ليست خبراً ساراً لإيران بالتأكيد. سمعت الدول التي كانت تعتبرها طهران قادرة على أن تكون حدائق اقتصادية خلفية لها كلاماً واضحاً. العراق ولبنان، وحتى بعض الدول الخليجية وصلتها الرسائل واضحة وقوية. في لبنان قال وزير الخارجية مايك بومبيو للمسؤولين اللبنانيين أنه يتفهّم الواقع اللبناني ولكن وضع الدولة بمؤسساتها وسياستها في خدمة «حزب الله» ومن ورائه إيران سيطيح بالدولة. أما خطوات التمايز العقلاني سياسياً، وتقوية المؤسسات وأجهزة الدولة فستلقى كل الدعم من أميركا وحلفائها.
المطلعون على مسار الإدارة الأميركية يُدرجون خطوة ترامب الأخيرة باعتراف واشنطن بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل في سياق الخطوات المتوقعة والمنتظرة كجزء من الاستراتيجية المرسومة للشرق الأوسط. لم تكن مفاجئة لهم، بل ربما جاءت مبكرة، إذ كانوا يتوقعون أن يُكشف عنها عشية الإعلان عن المقترح الأميركي لخطة السلام الفلسطينية – الإسرائيلية المتوقعة بعد الانتهاء من الانتخابات الإسرائيلية.
ورغم أن البعض رأى أنها محاولة لإعطاء رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو دفعاً في معركته الانتخابية، لكن محللين في واشنطن على تماس مع فريق «البيت الأبيض»، يرون أن الإعلان جاء في إطار نزع هذه الورقة باكراً، كما جرى مع خطوة نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية، من التداول والتجاذب حين يتم الوصول إلى «الخطوة الكبيرة»، أي الإعلان عن خطة السلام.
فمن وجهة نظر هؤلاء، سيتم احتواء المواقف وردّات الفعل والتداعيات، سواء بالترهيب أو الترغيب. أمام العرب أن يختاروا بين القدس أو تطويق خطر إيران على أمن دولهم، أو الانتقاء بين الجولان أو عملية سلام فلسطينية – إسرائيلية تضع حداً لهذا النزف، وتفتح المنطقة أمام أفق جديد.
غير الواضح حتى الآن لدى القريبين من فريق ترامب هو ماهية الإطار الذي يتمّ به الإعلان عن مقترح السلام، وما إذا كان ذلك سيتم في إحدى عواصم المنطقة ذات الثقل السياسي كمصر أو الرياض، على غرار قمّة الرياض التي جمعت ترامب بقادة الدول العربية والإسلامية، بما يُعطي دفعاً سياسياً للخطة قادراً على أن يوفر إمكانات النجاح لها، أم أنها ستحصل بمؤتمر في الولايات المتحدة الأميركية!. يجري الحديث عن الاستراتيجية الأميركية وكأنها باتت أمراً محتماً. ربما هي كذلك، لكن السؤال هو: بأين ثمن؟ والجواب اليقين: إنه ثمن باهظ.