لا حاجة لكثير من الجهد للخروج باستنتاج سريع بأنّ الاجتماع الاول للدول الخماسية المهتمة بلبنان على هامش أعمال الامم المتحدة لم يكن منتجاً، لا بل سلبياً، وكان ذلك واضحاً من خلال خفض مستوى تمثيل الدول المشاركة، بعدما كان حُكي عن اجتماع على مستوى وزراء الخارجية، وكذلك في مدة انعقاد الاجتماع، والتي كانت اقل من نصف ساعة، واخيراً بعدم صدور بيان ختامي.
ربما الإشارة الايجابية الوحيدة هي بما حُكي عن اقتراح بعقد اجتماعٍ ثانٍ بطلب قطري وموافقة فرنسية، بعد ان يكون قد اجرى كل طرف إعادة جوجلة جديدة على مستوى القيادات العليا. ولم يعد سراً انّ التمايز الحاصل هو بين باريس من جهة وواشنطن والدوحة من جهة ثانية، بينما بدت السعودية اقرب الى الفريق الثاني، خصوصاً مع إشارة انسحاب ممثلها من الاجتماع بعد ربع ساعة على انعقاده، وهو ما فُهم بأنّه جاء اعتراضاً على الموقف الفرنسي. وأرفق انسحابه بتجديد الموقف السعودي، بأنّ أي خطوة دعم للبنان لن تحصل الاّ بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والذي على ضوئه سيتقرّر ما اذا كانت السعودية ستتولّى دعم لبنان أم لا.
من هنا لا يمكن وضع كلام امير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الاّ في اطار الرسالة الحازمة والعلنية لفرنسا، وبأنّ الوقت لم يعد مفتوحاً، خصوصاً بسبب خطورة الوضع الذي وصل اليه لبنان، وذلك عندما ضمّن كلمته من على منبر الامم المتحدة حيزاً للبنان، حذّر فيه من الخطر الذي يهدّد مؤسسات الدولة، وداعياً الى حلول سريعة وايجاد حل مستدام للفراغ وإيجاد الآليات الدستورية لعدم تكراره مستقبلاً. كذلك فإنّ مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط باربرا ليف، والتي طلبت خلال اللقاء من فرنسا تحديد موعد نهائي وقريب لإنجاز مهمّتها في لبنان، حذّرت في الكلام الموزع عنها بأنّ بلادها لن تستمر في مساعدة المؤسسات اللبنانية طالما الفراغ موجود والأزمة مستمرة.
وفي واقع الامر، فإنّ انعقاد الجمعية العامة للامم المتحدة لهذه السنة، انما يحصل في وقت يئن فيه العالم تحت وطأة مشكلات وحروب وأزمات خطيرة، وتعاني معه الدول الخمس والمصنّفة كبرى، من آثار هذه الأزمات وهو ما انعكس بدوره على الأزمة اللبنانية.
فالولايات المتحدة الاميركية التي تعاني من أزمة ثقة على المستوى العالمي باشرت بانتهاج سياسة أقل تساهلاً. ذلك انّ صعود الصين وروسيا على المستوى الدولي، خلق منافسة كبيرة على زعامة العالم التي استمرت احادية لصالح الاميركيين منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991.
ومنذ ذلك التاريخ أدّت السياسة الأميركية اللامبالية في كثير من الأحيان نتيجة الشعور بفائض القوة، الى ظهور فراغات على المستوى الدولي، استفادت منها الصين وروسيا وكذلك دول اخرى على مستويات اقل مثل ايران وكوريا الشمالية وفنزويلا.
ولكن مع اندلاع حرب اوكرانيا عادت واشنطن لانتهاج استراتيجية جديدة اكثر تشدّداً، حيث نجحت في اوكرانيا في قيادة تحالف دولي من اكثر من 30 دولة.
واستتباعاً، فإنّ العودة الاميركية والتي تحصل تحت عنوان مواجهة الصين وروسيا، تشمل من دون شك ساحات الشرق الاوسط، حيث اصبحت روسيا موجودة عسكرياً في شمال سوريا، وحيث هنالك تحالف عسكري ايراني – روسي وتقارب بين طهران وبكين من خلال اتفاقيات طابعها استراتيجي.
وبالتالي فإنّ لبنان هو جزء مهمّ من المشهد الشرق اوسطي، خصوصاً انّه يشكّل جزءاً اساسياً من الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، حيث اكتشافات الغاز، اضافة الى خطوط نقل الغاز الى اوروبا والجاري وضع الخطط حيالها.
في المقابل، فإنّ فرنسا الجريحة في ظلّ الولاية الرئاسية الثانية لماكرون، تبدو وكأنّها فقدت دورها على المستوى الدولي، وهو ما يهدّد حضورها واستثماراتها الاقتصادية، وإزاء سلسلة الانقلابات في الدول الإفريقية والتي كانت تتمتع بنفوذ فيها، فإنّ باريس وجدت نفسها وكأنّها أُقصيت عن الخارطة الدولية ولم يعد لها سوى الساحة اللبنانية كموطئ قدم لنفوذها الخارجي. وهذا ما ادّى إلى صدام «ناعم» بينها وبين باقي اعضاء اللجنة الخماسية. واختارت باريس ان تتمسّك بورقة علاقتها الدافئة مع «حزب الله». وقد دفع بقوة في هذا الاتجاه رئيس الخلية الديبلوماسية في الايليزيه السفير الفرنسي السابق في بيروت ايمانويل بون، والذي يشكّل باتريك دوريل أحد اعضاء الفريق المساعد له.
وفي رأي بون، انّ إنجاز تفاهم مع الفريق الشيعي في لبنان سيضمن نجاح الدور الفرنسي، كونه الفريق اللبناني الأقوى. وكذلك سيساعد فرنسا في اعادة تعزيز حضورها في إفريقيا نظراً لوجود شيعي لبناني فاعل في العديد من دول القارة السوداء. وانّ المهمّ بالنسبة للمسيحيين في لبنان بقاء موقع الرئاسة اكثر منه هوية الرئيس. لكن باريس عجزت عن استمالة السعودية الى جانبها، حيث تبنّى ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان وجهة نظر المستشار في الأمانة العامة لمجلس الوزراء نزار العلولا، والرافضة لتكريس نفوذ «حزب الله» بشكل واسع ونهائي داخل ركائز الدولة اللبنانية، كذلك لم يتجاوب المسيحيون مع ترغيب وتهويل باريس.
لذلك، وبعد سقوط المبادرة الفرنسية في شهر ايار الماضي، عمد الرئيس الفرنسي الى تعيين جان ايف لودريان، الذي كان يعارض سياسة ايمانويل بون خلال وجوده كوزير لخارجية بلاده، ولودريان كان من فريق عمل الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند قبل ان يصل ماكرون الى الايليزيه ويمنحه حقيبة الخارجية.
ويشدّد لودريان بأنّ عدم التنسيق مع السعودية سيؤدي إلى كارثة سياسية جديدة لفرنسا في لبنان، ولذلك عمد ماكرون الى تعيينه موفداً رئاسياً الى لبنان كتعبير عن تجاوز المبادرة التي صاغها ايمانويل بون وسعى باتريك دوريل الى ترجمتها على ارض الواقع. لكن ومع التطورات المتسارعة في إفريقيا ظهرت نظرية جديدة داخل الادارة الفرنسية تقول بأنّ الفريق الشيعي في لبنان وكذلك شخصيات لبنانية اغترابية قادرة على مساعدة فرنسا في استعادة بعض أوراقها في إفريقيا. اضف الى ذلك، انّ السعودية بحاجة لفرنسا ودورها على الصعيد العالمي، ما سيدفعها في نهاية الامر الى الموافقة على المبادرة الفرنسية بصيغتها الاولى. ولكن قبل ان ينطلق لودريان في جولته الثالثة الى لبنان، حرص على لقاء المستشار السعودي نزار العلولا في باريس والاتفاق معه قبل لقاء الرئيس الفرنسي ونيل موافقته، وهذا ما حصل. لكن دوريل استبق وصول لودريان الى بيروت باتصالات مع كبار المسؤولين في لبنان ليبلغهم فيها بأنّ المبادرة الفرنسية المعروفة لم تمت لا بل جرى التمسك بها. هذا الجو أحدث ارباكاً لدى السفارة السعودية التي كانت تبلّغت اجواء مختلفة. لأجل ذلك حصل اللقاء في منزل السفير السعودي بهدف سماع الموفد الفرنسي يعلن ما جرى التفاهم حوله في باريس لناحية الانتقال الى اسم ثالث، وبأنّ الموقفين الفرنسي والسعودي متقاربان.
لكن هل هذا يعني صراعاً داخل الإدارة الفرنسية؟ اغلب الظن انّها توزيع ادوار بإشراف الرئيس الفرنسي، تهدف في الوقت عينه الى وضع يد بيد الفريق الشيعي واليد الاخرى بيد السعودية، وهذا الواقع ادّى الى الاجتماع الفاشل في نيويورك. لكن قطر دخلت على خط الوساطة بين باريس من جهة وواشنطن والرياض من جهة اخرى. وتدرك قطر بأنّ ثمة قراراً سقفه بيان اجتماع الدوحة الاخير، ولا يمكن التراجع عنه. وانّه في الوقت نفسه لا بدّ من تهدئة فرنسا التي عانت من خسائر بالجملة في إفريقيا. وبالتالي فإنّ الظهور وكأنّ قطر جاءت لتتحرّك في لبنان على أنقاض فشل المبادرة الفرنسية سيشكّل كارثة بالنسبة لباريس. وتقترح قطر ان تكون التحرّكات المقبلة في لبنان بتعاون كامل مع باريس، وان يكون ذلك تحت الرعاية السعودية. وفي الوقت نفسه فإنّ باريس تدرك بأنّ ثمة استثمارات ضخمة يجري التحضير لها لصالح لبنان عقب انتخاب رئيس لا يستفز دول الخليج. أما العكس فسيؤدي الى غرق لبنان اكثر، وهو ما سيعني تحميل فرنسا مسؤولية انفجار الوضع في لبنان في حال الذهاب في هذا الاتجاه.
أضف الى ذلك، انّ نتائج استكشافات الغاز في البلوك رقم 9 ستظهر الشهر القادم، وسط توقعات متفائلة بسبب نوعية الارض الجاري حفرها والتي تشبه كثيراً النوعية الموجودة في كاريش والمختلفة بالكامل عن البلوك رقم 4، والذي ابلغت شركة «توتال» الدولة اللبنانية انّها غير مهتمة بالقيام بأي عملية حفر فيه بعد الآن.
لذلك، فإنّ هذه العوامل تشكّل دافعاً لإنقاذ الوضع اللبناني لا تركه يتحلّل اكثر، ولأجل ذلك وافقت باريس على تمديد مهمّة لودريان في لبنان الى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعدما كان الانطباع بإنهاء مهمّته وتسليم الملف اللبناني لغيره، في إشارة الى تمسّكها بالتعاون مع السعودية وليس العكس.
وفي وقت بدت لهجة قطر على لسان اميرها، وايضاً واشنطن عبر مساعدة وزير خارجيتها، حاسمة وواضحة، من المفترض ان تنجح الوساطات في اعادة تدوير الزوايا، خصوصا انّ ماكرون سيلتقي رأس الكنيسة الكاثوليكية القلق جداً على وضع لبنان ومستقبله.