يبدو أنّ الضغط الذي يمارسه بعض القوى السياسية اللبنانية لإخراج الموقف الأميركي إلى العلن، على نحو جليّ وحاسم، بغية فرملة اندفاعة المراهنين على مندرجات الاتفاق السعودي – الإيراني لتأمين وصول سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، قد فعل فعله. أو لنقل، أثمر تحرّكاً ما في مياه موقف الإدارة الأميركية الراكدة.
إذ في غضون أيام قليلة، سجّل مرصد الاستحقاق الرئاسي اللبناني موقفين أميركيين، الأول صدر على شكل رسالة وجّهها كل من رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي روبرت مانديز، الديموقراطي، والعضو البارز في اللجنة، جايمس ريتش الجمهوري، إلى الإدارة الأميركية تطالبها بتوضيح موقفها من الاستحقاق اللبناني بشكل ينحاز لمصلحة رئيس «مختلف عن السابقين»، فيما برز أمس موقف جديد لواشنطن عبر وزارة الخارجية قالت فيه إنّ «لبنان يحتاج إلى رئيس متحرّر من الفساد وقادر على توحيد البلاد، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية أساسية على رأسها تلك المطلوبة لتأمين اتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي».
فهل دخلت واشنطن على خطّ الرئاسة بشكل مباشر بعد مرحلة من صمت حمّال أوجه؟
يقرّ بعض اللبنانيين المتابعين للشأن الأميركي عن كثب، بأنّ تحولاً ما طرأ على موقف الإدارة الأميركية التي راحت تعبّر بوضوح عن مواصفات الرئيس ودوره، بعدما كانت تتجنّب، وعن قصد، البوح بحقيقة مكنوناتها، فيما كان الضغط من جانب الزوار اللبنانيين لا سيما من الاصطفاف المعارض، لدفع الإدارة إلى حلبة الرئاسة والإفصاح عما لديها من اعتراضات وشروط، خصوصاً وأنّ ترشيح فرنجية قطع شوطاً كبيراً في معركته.
إلاّ أنّ حجّة الأميركيين كانت في عدم الرغبة في الانخراط في تفاصيل الاستحقاق، سواء في لعبة الأسماء أو المواصفات وهو ما دأبت على فعله السفيرة الأميركية ما دفع بعض المسؤولين اللبنانيين إلى اعتبار نأيها وكأنه موافقة صامتة على ترشيح فرنجية.
وقد تبيّن وفق هؤلاء المتابعين أنّ الإدارة كانت تحاذر أن تكون طرفاً «فجّاً» في هذا الاستحقاق، ولو أن للكونغرس مقاربة مختلفة بدليل سلسلة الرسائل الموجهة. ولكن بعد أشهر من النقاش الداخلي والذي شارك فيه بعض اللبنانيين، تقدمت واشنطن خطوة للأمام حين اقتحمت لعبة المواصفات. وهذا ما يعتبره بعض المتابعين، مؤشراً جدياً على انخراط الأميركيين.
يؤكد هؤلاء أنّه لا ضبابية في موقف الأميركيين ولكنهم كانوا يتعاطون بالملف اللبناني بمنطق شمولي انطلاقاً من حرصهم على عدم توسيع حالة الانهيار المالي والاقتصادي خشية أن تكون تدميرية على نحو كبير قد تطيح بالاستقرار وبما تبقى من مؤسسات. وهذا ما عبّروا عنه كثيراً خصوصاً وأنّهم يتحملون جزءاً من عبء التدهور الحاصل من خلال المساعدات التي يقدمونها. ولهذا يستعجلون إنجاز الاستحقاق الرئاسي في أقرب وقت ممكن ولكن من دون الوقوع في فخّ التمديد لحالة عهد الرئيس ميشال عون. والأكيد أنّهم يفضلون قيام دولة قادرة يعبّر عنها وجود رئيس وحكومة قادرين.
بهذا المعنى يُفهم أنّه قد لا يكونون على نفس موجة الإدارة الفرنسية غير الملتزمة، وفق المتابعين لخلاصات اللقاء الخماسي الذي عقد في باريس. النقاش يدور حالياً بين كلفة الفراغ وأعبائه وأثمان الرئيس المتوفر!
في بيروت، الثنائي الشيعي متمسك بترشيح فرنجية مقابل معارضة القوى المسيحية. ومع ذلك، ثمة من يرى أنّ المنفذ التي يتركه «حزب الله» تحت عنوان الدعوة للحوار، وهو ما عبّر عنه حديثاً رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد، يهدف عملياً إلى كسب الوقت. لماذا؟
يقول بعض المواكبين «لا بد أنّ «حزب الله» كان يدرك مسبقاً أنّ ترشيحه لفرنجية سيجعل كل الأحزاب المسيحية وأولها حليفه «التيار الوطني الحر» تجتمع على معارضته، ما يمنع تشكيل نصاب الثلثين في مجلس النواب على الأقل، وأغلبية تؤيده على الأكثر.
والاعتقاد السائد هو أنّ «حزب الله» كان يراهن على تغيير موقف السعودية بناءً على اتفاقها مع إيران. ومع حصول التفاهم لا يزال هذا السيناريو صعباً في ضوء الرفض المطلق الذي تبديه «القوات»، والممانعة التي يتسلّح بها إلى الآن «التيار الوطني الحر»».الحالة الإنتظارية
فهل للحالة الانتظارية التي يقال إنّ «الحزب» يلتزمها، ارتباط بالموقف الأميركي؟
يشير المواكبون إلى أنّ الاميركيين لا يبدون أي رأي سلبي أو إيجابي من ترشيح فرنجية لا علناً ولا سِراً. كما أنّهم لا يدعمون غيره، ليُستشفَّ أنهم لا يريدونه، خصوصاً وأنّ بعض مسؤوليهم كانوا متحمسين لخيار رئيس «تيار المردة» خلال الاستحقاق الماضي.
يعتقدون أنّه لا موانع جوهرية قد تدفع الأميركيين إلى المجاهرة برفضهم فرنجية ولكن المعارضة المسيحية لا تزال تشكّل عقبة أساسية أمام دخوله القصر. كما أنّهم لن يقبلوا بمرشح جبران باسيل (وهو ليس إلا جبران باسيل نفسه) لكي يُنتخب رئيساً للجمهورية. كذلك لن يرحبوا بمرشح مرفوض من «حزب الله» لأنّ ذلك يعني مزيداً من الفوضى.
يبقى احتمال واحد وهو أن ترسوَ الأمور «على برّ» بصيغةٍ ما بين واشنطن وطهران على صعيد يتخطى جوار لبنان المباشر، ومن ثمَّ، أنّ «تستقرّ» شراكة السعودية من ذلك الاتفاق الواسع وبما يتخطى لبنان، وبالتزامن ان تستقِّر «حصص» بقية اللاعبين كفرنسا وسوريا ومصر وقطر وحتَّى تركيا، بعدما يكون الأميركيون والإيرانيون وصلوا إلى الإتفاق.
كل ذلك، بحسب تقدير المواكبين، قد لا يحصل قبل انتخابات رئاسة الولايات المتحدة الأميركية في اواخر سنة 2024، إذ لن يخاطر الحزب الديموقراطي بالتنازل عن اي مكسب أساسي لصالح إيران (عدا الإفراج عن بعض الرهائن أو تحديد مستوى تخصيب اليورانيوم، مقابل تخفيف بعض العقوبات أو غضّ النظر عن تطبيقها بعض الشيء أو الإفراج عن بضعة مليارات محتجزة في دول حليفة لاميركا….). كما أنّ إيران لن تقدم تنازلات جوهرية لإدارة جو بايدن قبل الإنتخابات نفسها خوفاً من أن يخسر الديموقراطيون فيعود الجمهوريون لينقضوا ما يكون قد اتفق عليه.
وهذا ما يعني بنظر المتابعين، أنّ المبادرة الفرنسية قد لا تؤدي إلّا إلى تثبيت موقع فرنسا في تقديم «إخراج» للحل الرئاسي في لبنان متى نضج تبعاً لاتفاقٍ سيقع لا محالة بين اميركا وإيران.