إنشغال بعض المسؤولين اللبنانيين بالخطابات الشخصية والهمروجات الشعبوية، لتسويق اتفاق الترسيم لمصالحهم الأنانية، حجب عن لبنان الرسمي التعامل مع العودة الأميركية إلى لبنان بما تستحق من إهتمام وسرعة تفعيل، وقطف ثمارها في أسرع وقت ممكن، في بلد أحوج ما يكون إلى كل أنواع الدعم للخروج من دائرة الإنهيارات الراهنة.
الإتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس ميشال عون، ليس مجرد إتصال بروتوكولي تقتضيه نجاح المساعي الأميركية، بقدر ما كان إعلاناً غير مباشر عن عودة العم سام إلى بلد الأرز، بعد غياب فعلي إستمر حوالي ٣٨ عاماً، يوم إستيقظت بيروت على مغادرة القوات الأميركية والمدمرة «نيو جرسي» شواطئ الأوزاعي بعد تفجير مقر المارينز في المطار، وسقوط مشروع إتفاق ١٧ أيار مع العدو الإسرائيلي.
كلام الرئيس الأميركي عن عودة الإستثمارات إلى لبنان، والاستعداد الأميركي للمساعدة في توفير الدعم والتسهيلات اللازمة لخروج البلد من أزماته، وتعزيز الإستقرار، يعني بكل وضوح إنتهاء مرحلة رفع العقوبات الأميركية والغربية عن لبنان، والسماح للشركات العالمية، وخاصة النفطية، برفع قيود التعامل مع بيروت، حيث كان وفد شركة «توتال» الفرنسية في مقدمة الوفود القادمة إلى لبنان قبل أن يجف حبر مشروع الترسيم، وحتى قبل أن يتم التوقيع على الإتفاق من الجانبين اللبناني والإسرائيلي، وتعهد رئيس الشركة الفرنسية بالمباشرة في أعمال التنقيب فور إنتهاء مراسم التوقيع.
وجاءت تصريحات الوسيط الأميركي آموس هوكستين لتؤكد الإهتمام الأميركي المستجد بالوضع اللبناني المتداعي، حيث أعلن بذل المساعي لتسريع موافقة البنك الدولي على تمويل صفقة الغاز المصري وإستجرار الكهرباء من الأردن، وتسريع خطوات إستخراج الغاز لتأمين عودة الكهرباء للبنان، وتشجيع الشركة الفرنسية على إطلاق ورشة التنقيب والحفر في البلوكين ٩ و٤.
ولكن أين نضع العودة الأميركية على الخريطة السياسية؟
ديبلوماسياً: لبنان الرسمي كان سريع التفاعل مع توجه الإدارة الأميركية الجديد، وذلك من خلال التجاوب مع المطلب الأميركي بالتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد روسيا وضم المقاطعات الأوكرانية الأربع، ولم تقبل واشنطن بإمتناع لبنان عن التصويت.
سياسياً: بدأت الإشارات الأميركية تظهر في الإستحقاق الرئاسي عشية إنتهاء ولاية العماد ميشال عون، وذلك من خلال تشجيع ترشيح النائب ميشال معوض، المعروف بعلاقات عائلته الوثيقة بالإدارات الأميركية المتعاقبة.
ولكن العالمين ببواطن الأمور يتوقعون إنخراطاً أميركياً أقوى، وأكثر جدّية بعد ٣١ تشرين، والدخول في مرحلة الشغور الرئاسي، حيث تشتد الضغوط على كل الأطراف السياسية للذهاب إلى مرشح توافقي، أو بالأحرى إلى تسوية سياسية، تقضي بإختيار رئيس من خارج المنظومة السياسية الفاسدة، وقادر على تحقيق أكبر إجماع ممكن على الصعيد الشعبي حوله، وهو الوضع الذي قد يُشكل فرصة لإختراق قائد الجيش العماد جوزاف عون السباق الرئاسي.
وإذا تأكدت التكهنات بأن طهران لم تكن بعيدة عن المساعي الأميركية خلال المفاوضات المعقدة للترسيم البحري بين لبنان والعدو الإسرائيلي، عبر الدور الذي قام به حزب الله من خلال المسيّرات والإحداثيات خلال التفاوض، ثم تأمين التأييد والتغطية للإتفاق بكل ما له وما عليه، تصح التحليلات التي تربط بين التوصل إلى الإتفاق بين لبنان والجانب الإسرائيلي، وما جرى في بغداد فجأة من «إنفراج» في الأزمة السياسية العراقية المستمرة منذ أكثر من سنتين، حيث جرى إنتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس حكومة من السياسيين المحسوبين على الإطار التنسيقي الناشط في المحور الإيراني.
وثمة من يُحذر بتكرار تجربة التنسيق الأميركي ــ الإيراني في لبنان، في حال إستمرار الغزل الأميركي الحالي لطهران، على حساب ردة فعل إدارة بايدن الغاضبة على قرار منظمة «أوبك بلس» بتخفيض إنتاج الأعضاء بمعدل مليوني برميل من النفط يومياً، ومضاعفات هذا القرار على الإنتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، وعلى إرتفاع أسعار النفط عالمياً، وخاصة على الأوروبيين.
والمعروف أن النفط الإيراني يصل إلى الأسواق العالمية بمعزل عن العقوبات الأميركية، وتعثر مفاوضات النووي الإيراني، فضلاً عن الدور الذي يقوم به الرئيس الفرنسي ماكرون في نقل وجهات النظر الإيرانية إلى حلفائه في واشنطن والإتحاد الأوروبي.
فهل تكون العودة الأميركية إلى لبنان مقرونة بتعزيز الدور الإيراني في بلد الأرز، وإستنساخ تجربة بلاد الرافدين؟