لم يعد واضحاً ما الذي يريد حاكم مصرف لبنان القيام به حتى يهرب من محاكمة ضرورية لكل ما ارتكبه خلال ربع قرن من مخالفات تسببت بانهيار مالي كبير في لبنان. ولم نعد نعرف ما الذي يريده بعد لتغطية المزيد من الالاعيب والزعبرات بقصد الهروب من مسؤولية الكارثة القائمة اليوم. ولم نعد نفهم كم سيعمل على ابتزاز السلطات كافة، وابتزاز الناس المسحوقين، والاستعانة بكل شياطين السياسة والاعلام والامن في لبنان، من اجل التغطية على جرائمه التي يجب تحويلها الى لائحة اتهام واضحة يتم رفعها ليس في لبنان وحسب، بل في دول اخرى أيضا.
قبل ثلاث سنوات، كان الرئيس ميشال عون راغبا بعدم التجديد لرياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان. لكن الاخير لم يترك بابا للضغط الا واستعمله، مستعيناً بكل من قدم لهم الخدمات في لبنان وخارجه. صار الاعلام المرتشي يبكي على احتمال مغادرته، واطلقت المصارف اكبر حملة ضغط على جميع من في السلطة لعدم المس به. وتحركت السفارات العربية والغربية ليل نهار للتحذير من مخاطر خروجه من منصبه. وتحركت الاسواق على شكل سحوبات وتهريب اموال الى خارج لبنان تحت عنوان ان الرجل هو مصدر الثقة. كل ذلك كان ضروريا حتى يتيسر للفريق الحاكم منذ توقف الحرب الاهلية، الضغط على عون للقبول ببقائه حاكما. وعلى هامش التجديد، سقط من سقط من محيط الرئيس، من سياسيين ورجال اعمال ومصرفيين وتجار واعلاميين وخبراء، وصاروا يتحدثون عن اهمية بقاء الحاكم في منصبه. ولكن، خلال 3 سنوات، لم تبق كذبة في العالم الا وقدمها سلامة للرئيس عون. صار الاخير يتحدث بصوت مرتفع وثقة عالية عن سلامة الوضع المالي والنقدي في البلاد، وان الليرة بخير، وان الدين لن يكبر، وان المصارف في احسن الاحوال، وان مالية الدولة ترقص من فرط صحتها، وان موازنة الدولة لا تئن، وان كل ما يقال من هنا وهناك، ليس سوى هلوسات مجانين من افكار اقتصادية بالية، او من اعلام هدفه ابتزاز حضرة الحاكم وبقية المصارف..
صراحة، يجب القول اليوم إن الرئيس عون داكل الضرب»، ومعه كل من صدق ان رياض سلامة بيده الحل او انه يريد الحل، فيما هو، بما ومن يمثّل، أصل البلاء والمشكلة. وهو الذي يمكن القول اليوم انه يحتاج الى فحص قدرات للتأكد من قدرته على ادارة هذه الازمة. لكن موقف عون ليس كافيا، لان بقية اركان الدولة لا يحركون ساكنا. لا مجلس النواب الذي لم يبادر يوما الى محاسبته، ولا وزارة المالية التي تتعامل معه برفق او ربما بما هو اكثر. ولا القوى السياسية التي تخشاه لان استطلاعات الرأي «المعدّة نتائجها سلفا» تقول إن الرجل هو الاكثر شعبية عند الناس. لكن من هو شريك رئيسي لعون في المسؤولية عن بقاء سلامة في منصبه، هو «حزب الله» الذي لم يبذل الجهد الكافي لقول «كفى» صارخة لكل حلفائه!
وبعد كل الذي حصل، يطل سلامة على الناس، في حلقة اعلامية بائسة، ليرمي المزيد من الأكاذيب، وليقرر من طرف واحد، ان بمقدور المصارف تحويل الودائع بالعملات الاجنبية الى ودائع بالليرة اللبنانية. عاد ليوضح انه لم يقل بتحويل الوديعة، لكنه قال بحق المصارف بدفع هذه الودائع بالليرة. ومثلما قال انه لا يوجد قانون لتشريع قيود على عمليات السحب والتحويل والقطع (capital control)، ها هي المصارف، بدعم منه، تمنع اي تحويلات الا بحسب ما ترغب. واذا اتى احد على ذكر اعادة هيكلة الدين العام وشطب قسم منه، تحت عنوان «قص الشعر»، صرخ بأن ذلك مستحيل. فيما يترك الوضع ليتحول عمليا الى عملية ازالة للشعر، لكن على حساب المودعين الصغار فقط، وليغطي اكبر عملية تواطؤ مع قطاع الصيارفة، الذي يتحول يوما بعد يوم، الى قطاع رئيسي يتحكم بسعر العملة الوطنية ايضا، وليكون شريكا غير معلن حتى للمصارف.
فوق كل ذلك يعمد رياض سلامة الى تصرف وقح غير مسبوق من مسؤول عن ازمة وطنية كبرى. يعد كتابا ويرسله الى وزير المالية يطالب فيه بصلاحيات استثنائية لتنظيم اجراءات المصارف وتوحيدها بغية تطبيقها بشكل عادل ومتساو على المودعين والعملاء جميعا. ويبرر طلبه بكون مصرف لبنان لا يملك الصلاحيات الكافية للقيام بهذه الاجراءات من تلقاء نفسه.
في الكتاب الذي تسربت نسخته سريعا، ترد في اعلاه اشارة الى انه موجه الى «معالي وزير المالية»، لكن «الكاتب العبقري» لهذا الكتاب، ينهي الرسالة بمخاطبة «دولتكم». والحقيقة ان سلامة الذي يعرف ان بمقدوره القيام بكل ما يلزم من تلقاء نفسه لإلزام المصارف باجراءات تحفظ حقوق الناس، حاول رمي المسؤولية على الآخرين. فجرب حظه اولاً، معه شريكه الابرز الرئيس سعد الحريري، الذي قرر ان هاتفه لا يجيب الا على اتصال مباشر من السيد حسن نصرالله يدعوه الى ترؤس الحكومة من جديد. ولذلك وجد سلامة نفسه مضطرا الى مخاطبة وزير المال، وتوجه مباشرة الى الرئيس ميشال عون. الأخير سمع الرجل، وأبلغه بأن عليه اعداد ما يحتاج من تعاميم، وايداع القصر نسخة منها قبل اصدارها ليجري بحثها والتأكد من ملاءمتها مصالح الناس. وهذا امر لا يريد سلامة القيام به. هو لا يريد اي نوع من الرقابة عليه. يريد ان يبقى الحاكم باسم الله، ويطلب لنفسه صلاحيات تتطلب ليس اصدار تشريعات جديدة، بل ربما تستوجب تعديلات في الدستور، خصوصا أنه يريد اعادة النظر بمتطلبات الاقتصاد الحر، اللهم الا اذا افاق الرجل تائبا معلنا انضمامه الى الحزب الشيوعي.
عمليا، لن يتعاون احد في السلطة مع طلبات سلامة. ولكن هذه الحال قد لا تطول، لان السلطة القائمة حاليا، والتي لا تعرف تغيير ادوات عملها ولا منطق تفكيرها، قد تعود للتواطؤ معه كما فعلت وتفعل منذ ربع قرن. اما مجلس النواب، المفترض به المبادرة الى اجراء وقائي يحذر فيه الحكومة من اي تغطية لطلبات سلامة غير القانونية، فيعتبر نفسه غير معني طالما لم يحوّل إليه اي مشروع او اقتراح قانون. وهذا حال لجنة المال والموازنة، بينما يدرس القائمون على لجنة الادارة والعدل ما يمكن فعله. علما ان بمقدور رئيس المجلس ان يشرح للجميع بأن الرقابة على عمل الحكومة ليست رقابة لاحقة في كل شيء. بل هي رقابة تفرض احيانا اجراءات وقائية خصوصا عندما يكون الامر متعلقا بما بقي من رزق بين أيدي الناس.
لكن ما هو الاهم، والذي يجب على السلطات القائمة ان تعجل بانجازه، هو تطبيق المادة 19 من قانون النقد والتسليف المتلعقة باقالة الحاكم ونوابه. والتي تقول انه «في ما عدا حالة الاستقالة الاختيارية، لا يمكن اقالة الحاكم من وظيفته الا لعجز صحي مثبت بحسب الاصول أو لاخلال بواجبات وظيفته في ما عناه الفصل الاول من الباب الثالث من قانون العقوبات، أو لمخالفة أحكام المادة 20، أو لخطأ فادح في تسيير الاعمال». فهل ما قام به الرجل طيلة هذه الفترة من احتلاله موقع حاكم مصرف لبنان، لا يمكن ادراجه في خانة «الخطأ الفادح في تسيير الاعمال»، ان لم يكن «الاخلال بواجبات وظيفته».
لائحة من 21 اسماً على الأقل تحقق الولايات في احتمال «تورطهم في الفساد»
اما في ما خص عمل جمعية المصارف، ولا سيما رئيسها سليم صفير، وبعض اعضائها، وبعض كبار المساهمين فيها، خصوصا الواردة اسماؤهم في لائحة «مهربي الاموال الخاصة بين 17 تشرين الاول و30 تشرين الاول 2019، فهذا حديث له وقائعه الاكثر خطورة، خصوصا أن الاميركيين قرروا فجأة، ومن دون سابق انذار، تطبيق القانون (Global Magnitsky Act) وهو القانون الذي اقر في عهد الرئيس السابق باراك اوباما لمعاقبة الشخصيات الروسية المسؤولة عن موت المحاسب سيرغي ماغنيتسكي في سجنه. وفي كانون الاول من العام 2016 تم تفعيل القانون ليصبح عالميا ويسمح للحكومة الاميركية بـ«معاقبة المسؤولين الحكوميين الفاسدين». وبحسب معلومات «الأخبار» فان لائحة من 21 اسما على الاقل، من بين لائحة أولية تضم نحو 65 اسماً لرجال اعمال ومصرفيين ومسؤولين حكوميين، «تحقق الولايات المتحدة في احتمال تورطهم بفساد واعمال مخالفة للقوانين ادت الى ضرر في بلدانهم وتتيح لحكومة الولايات المتحدة ملاحقتهم بحكم القانون الآنف الذكر». بالتأكيد، لن يتخذ الأميركيون هذه الإجراءات بهدف مكافحة الفساد في بلادنا، بل هم سيفتحون بها فصلاً جديداً من فصول تدخّلهم لم تتضح ملامحه بعد.