المواقف السياسية التي حفلت بها الأيامُ الماضية كانت كافية لترسيخ الإقتناع بأنّ الأسابيع، لا بل الأشهر المقبلة، ستكون مفتوحة على شتّى أنواع التصعيد العسكري والأمني.
تجنّب الرئيس الاميركي باراك أوباما في خطابه الأخير أمام الكونغرس الحديث عن أزمات الشرق الأوسط، وتحديداً الحرب الدائرة في سوريا على رغم إقتراب موعد انعقاد جلسة التفاوض الجديدة، وهرب في اتجاه التطرق الى البُعد الانساني.
وأكثر من ذلك إعتبر أوباما أنّ تنظيم «داعش» لا يُشكل خطراً وجودياً على بلاده، ما يعني ضمناً أنّ الوقت لم يحِن بعد لاقتلاع هذا التنظيم، وأنّ واشنطن تحتاج الى «خدماته» في المرحلة الراهنة في إطار ترتيب المسرح الشرق – أوسطي.
وكان منسّق الهيئة العليا للمفاوضات لدى المعارضة السورية رياض حجاب قد أعلن قبل أيام أنّ واشنطن تراجعت عن موقفها في شأن سوريا، مضيفاً بشيء من الإحباط أنّ التاريخ لن يغفر لأوباما.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهته نفى أن يكون قد حصل تفاهم على تحديد مدة بقاء الرئيس بشار الأسد في سدة الرئاسة السورية حتى منتصف سنة 2017، ولو أنّه ترك الباب مفتوحاً لاحتمالات التسوية مستقبلاً.
وأوضح أنّ ملف التفاوض وُضع جانباً وأنّ الاجتماع المقبل في شأن سوريا لن يشهد أيّ جديد وأنّ المرحلة هي للميدان.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان أكثر تعبيراً في هذا الشأن ولو مِن زاويته كطرف معني مباشرة بالقتال الدائر في سوريا. فهو تحدّث عن سعي روسيا الى رسم حدود الدولة العلوية. وما يُفهم من تصريحه أنّ روسيا تضع قوّتها العسكرية لمصلحة الجيش السوري في عملية «تنظيف» «سوريا المفيدة» وتأمين التواصل الآمن بين كلّ أنحائها وصولاً الى حلب.
وموقف الرئيس التركي الذي بدا دفاعياً لا هجومياً جاء بعد ساعات قليلة على انفجار اسطنبول. صحيح أنّ العملية الارهابية هذه لم تكن الاولى من نوعها في تركيا منذ اندلاع الحرب في سوريا لكنها جاءت مختلفة عن سابقاتها ومعبّرة جداً.
ففي السابق كان الارهاب في تركيا يطاول المناطق ذات الحضور الكردي حيث يخوض هؤلاء حرباً حقيقية ضدّ الجيش التركي في المناطق الجنوبية. لا بل إنّ أردوغان نجح في توظيف ارتدادات هذه التفجيرات لمصلحة حزبه في الانتخابات الأخيرة التي أعطته فوزاً كاسحاً.
لكنّ ما حصل في اسطنبول كان مختلفاً، فهو يصيب القطاعين السياحي والاقتصادي في الصميم، خصوصاً في ظلّ المقاطعة الروسية السياحية والاقتصادية لتركيا.
وفيما اتهم رئيس الحكومة احمد داود اوغلو «داعش» بالعملية الارهابية التي جاءت وفق اسلوب التنظيم، كان لافتاً عدم صدور أيّ بيان رسمي من «داعش» في هذا الاطار.
الأوساط الديبلوماسية الاوروبية حملت تفسيراً آخر. فهي في الأساس تميل الى الاعتقاد بأنّ «داعش» كتنظيم لم يكن أبداً تنظيماً يحظى بهرمية واحدة متينة وإدارة صلبة وقوية. صحيح أنّ هناك قيادة موجودة لكنّ ارتباط المجموعات بها، فيه شيء من حرية الحركة، وهو ما يُفسّره مثلاً انضمام مجموعة مسلّحة كاملة الى التنظيم بعد مبايعة ابو بكر البغدادي من دون حصول تغييرات في أمرة المجموعة.
وانطلاقاً من هذا التفسير، تعتقد العواصم الاوروبية أنّ الجسم الفضفاض لـ»داعش» يحوي كثيراً من المجموعات التي لديها تواصل مع دول كثيرة وأنه كما لبعض دول الخليج تأثير مباشر على مجموعات في «داعش» وكما لتركيا خطوط تواصل مع قيادة التنظيم وقنوات مفتوحة في إطار النفط وامداد السلاح والذخائر. وتصل هذه الاوساط الى استنتاجها بأنّ الضربة التي حصلت في اسطنبول قد تكون نفّذتها خلية تنتمي الى هذه المجموعة ومخترقة.
وحسب قراءة هؤلاء، فإنّ الجيش السوري الذي باشر حملته العسكرية يدعمه «حزب الله» والطائرات الروسية على ريف اللاذقية وحلب، فإنّه يمكن قراءة انفجار اسطنبول من هذه الزاوية، خصوصاً أنّ ساحات المعارك تبدو قريبة من الحدود التركية وهي المنطقة التي تعتبرها أنقرة مناطق نفوذ مباشر لها.
وفي الاستنتاج أنّ سوريا دخلت في المرحلة العسكرية الحامية، وأنّ واشنطن ليست معترضة على ذلك بدليل كلام أوباما أنّ «داعش» سيكون سلاحاً حاضراً.
المراقبون يُرجّحون مثلاً أنّ تردّ تركيا على تفجير اسطنبول ومن خلال «داعش» أيضاً في مكان ما قد يكون سوريا أو ساحة قريبة منها.
أضف الى ذلك أنّ قيادة التنظيم تسعى أساساً إلى تنفيذ ضربات إرهابية بهدف تخفيف الضغط العسكري الذي بدأ على مناطقها في حلب وشمال سوريا.
ولأنّ ساحة لبنان تبقى ساحة مثالية لتلقي الرسائل الارهابية وسط التعقيدات والتشنّجات السياسية الحاصلة والمواجهات الحادة بين القوى الاقليمية، فإنّ العواصم الغربية عادت لتدقّ ناقوس الخطر الامني في لبنان، بما فيها المناطق المحسوبة على «حزب الله».
وصحيحٌ أنّ المواجهات العسكرية في جرود عرسال لا يمكن أن تُحقّق أيّ نتيجة في ظلّ الجهوزية العسكرية الممتازة لوحدات الجيش اللبناني والخطط الدفاعية الموضوعة، لكنّ التواصل السهل للمجموعات المتطرّفة مع بلدة عرسال يفتح امكانية تسرّب هؤلاء الى الداخل اللبناني لتنفيذ عمليات ارهابية مطلوبة. وتبدو حرية حركة هؤلاء واضحة من خلال عمليات التصفية التي تنفّذها والتي تطاول «عراسلة» لا يتجاوبون معهم، ومِن هؤلاء شهيد من فرع المعلومات.
وخلال الأيام الماضية، أبلغت المخابرات المركزية الأميركية باريس أنّ لديها معلومات اكيدة عن نية تنظيم «داعش» استهداف المصالح الفرنسية في لبنان، ولا سيما منها شركة الطيران الفرنسية التي تحطّ طائراتها في مطار بيروت. وقد حصل تواصل بين السلطات الفرنسية والأمن العام اللبناني حيال هذه المعلومات، واندرجت جولة السفير الفرنسي إيمانويل بون على المسؤولين اللبنانيين في هذا الاطار.
وصحيحٌ أنّ الاجراءات المتخذة في مطار بيروت هي في مستوى جيّد، لكنّ تفاصيل عملية تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء من خلال مطار شرم الشيخ رفعت منسوبَ القلق لدى الجميع.
ذلك أنّ أجهزة التنصت الاميركية المولجة الشرق الاوسط نجَحت في التقاط رسالة مشفّرة وموجّهة من الخلية الارهابية في شرم الشيخ الى قيادة «داعش» تعلن فيها عن نجاحها في تمرير القنبلة الى داخل الطائرة الروسية وذلك بعد دقائق من حصول الانفجار.
لكنّ الأهم أنّ المخابرات المركزية الاميركية علمت بأنّ تهريب القنبلة حصل من خلال رشوة ضابط من الطائفة القبطية لم يكن يعرف ماذا يحوي الطرد ولقاء مبلغ صغير من المال. ويبدو أنّ نجاح التجربة في شرم الشيخ فتح شهية «داعش» لتكرارها في مناطق أخرى.
ويبدو أيضاً أنّ الأجهزة الامنية اللبنانية قد رفعت من جهوزيّتها، ليس فقط في مطار بيروت، وإنما على مساحة الجغرافيا اللبنانية، خصوصاً المصالح الاجنبية، إذ إنّ البعض يقرأ في تفجير اسطنبول وجهاً آخر يتصل باستهداف أوروبيّين، ولو في بلدان شرق اوسطية. وهذا الاحتمال موجود أيضاً لدى الاوروبيين الى جانب الاحتمال السابق.
والأسوأ أنّ بعض الجهات الدولية يجد في المخاطر الإرهابية إزاءَ لبنان جوانب «مفيدة» كونها قد تشكل عاملاً ضاغطاً لدفع الجميع الى تسوية رئاسية.
وعلى رغم أهمية الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الايراني حسن روحاني إلى باريس أواخر الشهر الجاري وسيكون ملف الرئاسة اللبنانية بنداً رئيساً في المحادثات بينه وبين نظيره الفرنسي، فإنّ واشنطن باتت مقتنعة بحرّية الحركة التي يحظى بها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وأنه يلعب دوراً أساساً في اتخاذ القرارات على الساحات الشيعية العربية، باستثناء العراق الذي يحظى بخصوصية إيرانية، وأنّ لهذا السبب يتولّى نصرالله اتخاذ المواقف العلنية في المسائل السورية واليمنية والسعودية، ويتولّى ما يشبه دور «وليّ الفقيه» بالنسبة الى الشيعة العرب عدا العراقيين.
لذلك لا بدّ من التواصل معه ولو من خلال قنوات لبنانية رسمية، وهذا لا يُلغي الإقتناع بأنّ الضغوط الديبلوماسية والمالية على «حزب الله»، إضافة الى الضغوط الأمنية، ستساهم في جعل هذه المفاوضات مفيدة ومنتجة.