لم يعد هناك أدنى شك، أن التمادي الإسرائيلي في قتل وتدمير أهل غزة، وارتكاب أشنع المجازر وأبشعها على مدى التاريخ الإنساني، لم يكن أو يقدر له أن يكون لولا الغطاء الدولي وعلى رأسه ما يعرف بسلاح الڤيتوات الأميركي. وأبسط الدلائل على حجم التناقض الذي تعيشه إدارة بايدن هو ما يعرف في الأمثال الشائعة (اسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أتعجب).
نعم، هذه هي الحقيقة التي تمارسها إدارة البيت الأبيض في كيلها بمكاييل متعددة، فيما خصّ حقوق الإنسان وتطبيق المواثيق الدولية، فما يجري في غزة لم يبتعد كثيرا عما تقدّم. فالسلاح الفتّاك والجسر الجوي والأموال التي تتدفق على الكيان الإسرائيلي كافية لتدين أم الديمقراطيات في العالم، الولايات المتحدة الأميركية.
لقد استخدمت الولايات المتحدة الأميركية حق النقض الفيتو في مجلس الأمن، الأسبوع الفائت، لإسقاط مشروع قرار أعدّته الجزائر، بدعم عربي، يطالب بوقف فوري ودائم للنار لأسباب إنسانية، في غزة، ولكن الجديد هذه المرة أن الفيتو رافقه مقترحاً بديلاً يدعو إلى وقف مؤقتٍ للنار، أي ما بات يعرف بالهدنة، لإعطاء إسرائيل فرصة التقاط أنفاسها بعدما أبلت فيها المقاومة البلاء الذي لم يسبق للكيان الإسرائيلي في كل حروبه مع الدول العربية، أن مُني بهكذا خسارة مادية ونفسية واقتصادية..
الڤيتو الأميركي الجديد هو الرابع بوجه محاولات وقف النار في غزة، ولكن هذه المرة، قدّمت الولايات المتحدة بديلا حمل جديدا، ولو أن البعض يشكك بمدى جديّتها ورغبتها في وقف إطلاق النار، معتبرين أن كلامها يهدف إلى كسب المزيد من الوقت لإسرائيل. بالمقابل، يرى المتابعون لتطورات الحرب على غزة أن المشروع الأميركي حمل تقدّما كبيرا ينبغي التوقف عنده، وهو يشكّل خطوة إضافية للضغط على إسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو للالتزام بالرؤية الأميركية لحل الصراع. ويشير المتابعون، أن المشروع حمل لأول مرة دعوة لوقف إطلاق النار، دون تحديد غطاء زمني واضح له؛ والهدف الأساسي منه بالدرجة الأولى هو الضغط على نتنياهو للالتزام بالرؤية الأميركية، إلى جانب هدفه تعطيل مشروع القرار الجزائري الذي يعبّر بلغة متقدمة عن ضرورة وقف النار فوراً.
كثيرة هي الأسباب التي دفعت الأميركيين للتقدم خطوة إلى الأمام في مشروع القرار هذا، منها بحسب الأوساط المتابعة، أنه يأتي بعد نشر استطلاعات للرأي تُظهر تقدم المرشح للرئاسة الأميركية دونالد ترامب بفارق هو الأكبر مع بايدن منذ بدء الحملات الانتخابية، وبالتالي يشعر الرئيس الأميركي أنه يخسر الانتخابات باكرا، وأن هناك ضرورة لتغيير النهج لأن ملف الحرب في الشرق الأوسط بات مكلفا على مستوى الموارد أولا، وعلى مستوى التأثير على شرائح الناخبين الأميركيين الذين أذهلتهم تفاصيل الحرب الدموية بحق الفلسطينيين.
وفي نفس المسار، إن ارتفاع حدّة الرسائل الأمنية في المنطقة كان بارزا في الموقف الأميركي الجديد، خاصة ما يجري في البحر الأحمر، انطلاقا من إسقاط مسيّرة أميركية، لم يكن الجيش الأميركي يعتقد بإمكانية إسقاطها. وثانيا، من خلال ضرب السفن في المنطقة البحرية المذكورة، لا سيما ما حصل للباخرة البريطانية مؤخراً.
انطلاقا من هذه المشهدية، يبقى الزعم الأميركي مرتبطاً بالاستحقاقات الداخلية، لا سيما الرئاسية منها، في ظل السباق بين بايدن وترامب نحو البيت الأبيض. وما المقترحات الجديدة سوى رسائل بينية يتقاذفها الديمقراطيون والجمهوريون، فيما الحقيقة أن المستعمرة الاميركية المتقدمة، المتمثلة بالكيان الإسرائيلي، ما هي إلّا أداة ترتفع حدّتها وتخفت تبعا للنقاط التي يحتاجها الطرفان الأميركيان، فيما فلسطين هي الضحية ومعها كل الملفات العربية ذات الصلة.
لذا، فإن ما يرشح عن تطورات التفاوض في فرنسا، يبقى مرتبطاً بـ«قبة باط» أميركية بانتظار الركون إلى «هدنة» أو وقف لإطلاق النار؛ هذا إذا لم يتقدم الڤيتو الأميركي مجددا على كل مساعي التهدئة.