الأفضل ألّا يتسرَّع أحد في الاستنتاج. لا الأميركيون يريدون انهيار لبنان، ولا لبنان يريد محاصرة «حزب الله»، ولا «الحزب» يريد انهيار المصارف. الجميع محكومون بالتعاطي مع الجميع. لكنّ شيئاً ما يجب أن يقبل به كلّ طرف لتمرير مجريات اللعبة.
بقيت واشنطن، لسنوات طويلة، تخوض غمار المنازلة الكبرى مع طهران، حول الملف النووي. وخلالها، كانت تقيم حظراً على أرصدة إيرانية بعشرات المليارات من الدولارات، وتحاصر طهران اقتصادياً. لكنّ واشنطن كانت خلال هذه الفترة تتعاطى بكثير من المرونة مع «حزب الله».
ولسنوات طويلة، قبل العام 2005 وبعده، كان الأميركيون يتواصلون مع «حزب الله» على رغم موقفهم المعلن من سلاحه، وعلى رغم انخراطه في القتال إلى جانب الرئيس بشّار الأسد في سوريا. ففي العمق، اعترفت واشنطن بخصوصية الواقع اللبناني المعقّد وأدركت أنّ استهداف «حزب الله» يهزّ الاستقرار اللبناني. ومن الحكمة أن يتمّ التعاطي مع الواقع «بواقعية».
بارك الأميركيون حكومات لبنان، ولاسيما حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وتعاطوا معها إيجاباً على رغم أنّ غالبية القرار فيها كانت لـ«حزب الله» عملياً، وعلى رغم الاعتراضات العنيفة التي صدرت عن 14 آذار. وهناك مَن يعتقد أنّ الأميركيين وافقوا واقعياً على دور لـ«الحزب» في سوريا، من ضمن منظورهم لاستمرار الأسد في موقعه حتى نضوج التسويات.
اليوم، تبدو الأمور في الاتجاه المعاكس؛ ففيما يمضي الأميركيون في تنفيذ بنود الاتفاق النووي مع إيران، ويفرجون عن الأرصدة الإيرانية المجمّدة، يشنّون في الوقت نفسه، حرباً لا هوادة فيها على منابع تمويل «حزب الله»، ويضغطون بقوة على السلطة اللبنانية لتقوم بدور فاعل في هذه الحرب.
هنا ينبري السؤال التالي: لماذا قرّر الأميركيون استهداف «الحزب» في زمن الوئام مع طهران؟
تروِّج مصادر معنية أنّ توقيت الاستهداف الأميركي لـ»حزب الله» يتعلّق بنضوج المواجهة الشاملة ضد الإرهاب. والدليل هو أنّ الأميركيين لا يستهدفون «الحزب» وحده، بل إنّ تدابيرهم تأتي في سياق سلسلة تشمل «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» والتنظيمات الرديفة أيضاً. ولذلك فإنّ المطلوب هو حماية القطاع المصرفي الأميركي نفسه من الخرق.
وتلفت المصادر إلى ما يتمّ كشفه عن خلايا التهريب وتبييض الأموال، خصوصاً بين أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، والتي تبيَّن أنّ لبعضها ارتباطاً بـ«الحزب». وتذكِّر المصادر بأنّ طلائع التدابير الأميركية ظهرت مع نهاية العام الفائت، عندما تمّ «إجبار» المجلس النيابي اللبناني على تجاوز كلّ الاعتبارات السياسية الداخلية وإقرار القوانين المتعلقة بالشفافية والتزوير وتبييض الأموال.
ولكن، على رغم هذه التبريرات، هناك انطباع في بعض الأوساط السياسية بأنّ الحملة الأميركية على «حزب الله» تتجاوز الاعتبارات المعلنة المتعلقة حصراً بالإرهاب، وأنها تتخذ طابعاً سياسياً. فليس جديداً على الأميركيين أنّ هناك خطوط تمويل لـ»الحزب» تمرّ بين أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. فلماذا لم يلجأوا منذ سنوات إلى تدابير حازمة؟
اليوم، يدرك الأميركيون تماماً ما ستقود إليه هذه الحرب. فحظر تمويل «حزب الله» ستكون له آثار مهمة عليه، لأنه ليس حزباً سياسياً عادياً يمكنه الاكتفاء بتبرّعات المحازبين، بل هو مؤسسة عسكرية- أمنية- سياسية- إعلامية عملاقة تحتاج إلى مقوّمات مالية ضخمة يوفرها اليوم الدعم الإيراني.
وبعد التدابير الأميركية والأوروبية، ستستمرّ قناة الدعم الإيرانية لـ»الحزب»، علماً أنّ هناك مَن يتحدث عن تراجع هذا الدعم نسبياً. لكنّ جزءاً كبيراً من التمويل الذي يحصل عليه «الحزب» من خلال أقنيته العالمية سيتعرض للحظر بسبب المراقبة الدولية.
والأخطر هو حظر التعاطي بين «الحزب» والبيئة المصرفية اللبنانية. فهذا الأمر سيعتبره «الحزب» محاولة لخنقه، وسيقاومها بكلّ ما له من قوة. ويجاهر الأميركيون بأنهم يحصرون المواجهة بـ«حزب الله» ولا يستهدفون الطائفة الشيعية ككل. لكنّ الفرز ما بين «الحزب» والشيعة في لبنان صعب جداً، والفرز ما بين الشيعة والتركيبة اللبنانية مستحيل.
ولذلك، فإنّ الحرب على تمويل «حزب الله» لا يمكن إلّا أن تصيب الوسط الشيعي اللبناني برمته، ولا يمكن إلّا أن تهزّ الاستقرار اللبناني، لا المالي فحسب، بل الوطني أيضاً.
إذاً، يتجه الملف إلى أحد خيارين:
1 – أن يوفَّق اللبنانيون بتنفيذ مندرجات القانون الأميركي بهدوء، بحيث يُلبّون المطالب الأميركية تحت سقف الاستقرار مع «حزب الله». وهذا يستلزم أن يتفهّم «الحزب» وضع القطاع المصرفي اللبناني ويقتنع بأنّ جزءاً كبيراً من خطوط تمويله عبر المصارف اللبنانية سيتوقف، أي أن يوافق «الحزب» على محاصرته جزئياً.
2 – أن ينتفض «الحزب» في وجه الجميع، فيتصادم اللبنانيون حول الملف ويتطوّر الأمر من المواجهة المالية إلى مواجهة سياسية شاملة تهدد الاستقرار الوطني برمته، مالياً وسياسياً، وكذلك أمنياً.
البعض يرى أنّ «حزب الله» يفضل الخيار الهادئ. فليس في مصلحته أن يهدم الهيكل على رؤوس الجميع، فهو أيضاً موجود في الداخل. والسيناريو الانقلابي لا يخدمه حتى ولو كان يريد الوصول بالبلد إلى المؤتمر التأسيسي، لأنّ الخسائر الناجمة عنه قد لا يكون ممكناً ترميمها.
ولكن، سواء اتّخذ الملف وجهة التهدئة أو التصعيد، فإنه سيترك انعكاساته، وقد يصبُّ في إنضاج المرحلة السياسية الآتية، التي سيكرِّس فيها «حزب الله» موقعه كحزب سياسي لبناني.
وفي الانتخابات البلدية الأخيرة، ظهرت قوى شيعية محلية في بعض المناطق وأعلنت أنها تنافس «الحزب»، ولو تحت سقفه السياسي. وعلى الأرجح، ستتحرك قوى عدة داخل بيئة «حزب الله»، كما أنّ «الحزب» نفسه سيولي الأهمية لخياراته السياسية المحلية في شكل أساسي.
ما هو موقف إيران إزاء هذا المسار الذي ينقاد إليه حليفها اللبناني وذراعها الأقوى في البقعة اللبنانية- السورية؟ الأرجح أنّ إيران تجاوزت مرحلة الخوف على مصالحها في الشرق الأوسط كله؛ في سوريا بات مصير الأسد مضموناً، وفي لبنان لا أحد قادراً على إلحاق الهزيمة بـ»حزب الله». ولذلك، هي تنسِّق الخطى مع روسيا، وتتصرف كشريك إقليمي فاعل للولايات المتحدة.
والمنطقة بكاملها تتغيّر جذرياً. ففي الأسابيع المقبلة، ستنطلق مناورات عسكرية جوية وبحرية روسية- إسرائيلية، بناءً على اتفاق بين بوتين ونتنياهو. ولهذه الغاية، ستكون المرّة الأولى التي تنطلق فيها المقاتلات الروسية من قواعد في بلد عربي (اللاذقية وطرطوس) إلى حيفا وأشدود الاسرائيليتين. ويستكمل هذا الاتفاق ما تمّ التفاهم عليه بين الجانبين لجهة حماية روسيا حقول النفط الإسرائيلية في المتوسط!
الواضح أنّ الشرق الأوسط يعيش اليوم تحت مظلة التوافق الأميركي- الروسي- الإيراني. فالتصادم انتهى بمحطات سابقة أبرزها اثنان: اتفاق كيري- لافروف حول مصير الأسد، والاتفاق النووي مع إيران. وفي الموازاة، بديهي الحديث عن تفاهم بين روسيا وإسرائيل.
ضمن هذه الرؤية، يرتسم الشرق الأوسط. والمعارك الجارية اليوم في سوريا، وفي حلب تحديداً، لا تهدف إلى تحقيق انتصارات، بل إلى ترتيب بعض التفاصيل في الخرائط المرسومة. ويبدو مفهوماً ما يقوم به الأميركيون للحدّ من فائض قوة «حزب الله». وربما لهذه الأسباب تلوذ إيران بالصمت.
لقد تجاوز الشرق الأوسط عنصر المفاجأة، والكل يدرك حجمه. ولم يبقَ سوى استنفاد الوقت الضروري لاستكمال اللعبة المعقّدة، والمعروفة النتائج مسبقاً.