أكّدت الغارة الإميركيّة على موقع للجيش السوريّ في دير الزور واستشهاد تسعين جنديّاً ضمن مجزرة وحشيّة، أنّ العلاقة الأميركيّة – الروسيّة ليست بخير وليس ثمّة تبادل للأدوار بينهما كما زعم كثيرون، بل على العكس تماماً أظهر هذا الأمر بأنّ الروس والأميركيين لم يتفقوا على ايّ رؤية تعد بالقضاء على الإرهاب من جذوره، فتلك ورقة لا تزال في الحوزة الأميركيّة معدّة للاستثمار، وهم غير مستعجلين للقضاء عليها لأنّ الهدف منها ليس تطويع سوريا في المطلق، بل تطويع الخليج العربيّ قدر الإمكان وزجّه في محطّات قاسية تغيّر من بنيته. ولعلّ كلام الرئيس الأميركيّ القريبة ولايته من النهاية إلى صحيفة ذي أتلانتيك منذ أكثر من شهرين وفيه وجّه نقداً لاذعاً للسعوديين يؤكّد أنّ هذا المدى مدنوّ إلى حقبة جديدة من تاريخه، والورقة التكفيرية سيف أعدّ لتقطيع الأوصال في شبه الجزيرة العربيّة.
معلومات بدأت ترد من موسكو، كشفت بأنّ الرئيس فلاديمير بوتين تعاطى مع الهدنة بكبر نفس وأخلاق عالية على الرغم من أنّه خدع قبل ذلك مرّة مرّة أو مرتين. ويحاول بوتين معالجة الموقف مع أميركا بتؤدة وحكمة، لكونه مدركًا بأن الموقف بحال ذهب إلى ما هو أبعد من التوتّر الموضعيّ، فيؤول الوضع والعالم كلّه إلى تمزّق وجوديّ كامل، وهذا ما جعل الجميع بغنى عنه في الظروف الحالية. امتص فلاديمير بوتين السلوكيات الأميركيّة وأعطى توجيهاته للجيش الروسيّ ولمعظم الأجهزة التعاطي مع الهدنة بجديّة فائقة بلا زيف ولا زغل، وقد انعكس ذلك على القيادة السوريّة والتي بدورها كانت صارمة في الاتجاه عينه. وكان الهدف استثمار الفتنة بين الأميركيين والروس في سبيل اجتراح حل سياسيّ في سوريا. وقد اقتنع السوريون وبحسب مصادر مقرّبة بأنّ الهدنة يجب أن يكون لها هدف سياسيّ، وليس لها أن تتمحور في الشقّ الإنسانيّ، أو الاتجاه إلى إنشاء مناطق عازلة. لكنّ شروط الحل السياسيّ عند القيادة السوريّة تتطلّب بالضرورة القضاء الكامل والجذريّ على الإرهاب، وقد أعلنوا موقفهم بوضوح أمام الروس والإيرانيين. وتقول بعض المعلومات بأنّ بعضهم في سوريا كان يخشى من خديعة وقد وضع الروس أمام تلك المخاوف نظراً للخبرات السيّئة مع الإدارة الأميركيّة، وبخاصّة في الآونة الأخيرة حين لم تصمد الهدنة على الإطلاق. فكان الجواب الروسيّ لننتظر ونر وكان يقرأ الأمور بنوايا حسنة ويحاول التماشي مع الرغبة في إرساء حل نتيجة للقاء الطويل بين سيرغي لافروف وجون كيري.
وتقول معلومات أخرى بأنّ الإيرانيين حينما استشيروا بموضوع الهدنة انفتحوا عليها وإن بدورهم على مضض، لم يكونوا متشددين على الإطلاق والإيرانيون مع حزب الله دعاة لتسوية سياسيّة شرط أن تبقي الاعتبار لدور الرئيس بشار الأسد كرئيس للجمهورية العربيّة السوريّة، لماذا الإيرانيون انفتحوا بمضض على مشروع الهدنة؟ ذلك أنّهم قرأوا بأنّ التعهدات الأميركيّة ما كانت معطى صارماً بقدر ما كانت دوماً واقعاً ضبابياً خالياً من شفافية ووضوح. فهم يتمظهرون بالموافقة على الحلول ولكنّهم ما يلبثوا أن ينقلبوا في الخفاء. ويعتقد مصدر دبلوماسيّ عربي في هذا السياق بأنّ الأميركيين في الجوهر لم يتفقوا يوماً مع الروس، وكلّ الكلام القائل بأنّ ثمّة تسوية ناضجة تسمح بأن تكون هذه المنطقة تحت النفوذ الروسيّ يحتاج لكثير من التقدير والقراءة. مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الدخول الروسيّ المباشر في جوهر الصراع في سوريا وعليها كان بمثابة الزلزال داخل الإدارة الأميركيّة، فهم لم يتعاملوا مع التوقعات والدراسات الصادرة على مراكز أبحاث تؤكّد مسار الدخول الروسيّ بجديّة بل تعاطوا معه بخفة، لتجيء قضيّة أوكرانيا فيما بعد بمثابة الضغط الفج، ولكنّه ضغط ساقط. فمن المؤكّد بأنّ الروس دخلوا حتى لا يخرجوا، دخلوا ليكونوا شركاء مستثمرين وحماة صلبين في اللحظة التي سيتم فيها تقرير المصير السياسيّ والجغرافيّ والجمعيّ كما الجماعيّ. وفي هذا المجال ليس أمام الأميركيين سوى منهج الخداع للتعامل مع القوّة الروسيّة، حاولوا استثمار رجب طيب أردوغان لكنّه ما لبث ان انقلب عليهم بتحويل نفسه إلى لاعب كبير مستثمر بالانفصال عنهم والانقلاب عليهم وإلى مؤسس جديد لنيو – عثمانية ممدودة من الشرق إلى الغرب، فساهموا بدورهم في الانقلاب الفاشل عليه، حاولوا الالتفاف على الحلف الروسيّ – الإيرانيّ بتحريضهم وزير الخارجية السعوديّ عادل الجبير بتأليف جبهة للدول العربيّة السنيّة للحرب على الإرهاب، فإذ بالجبير يحاول أخذها بالتعاون مع الأميركيين إلى مكان آخر، أي إلى القضاء على حزب الله على وجه التحديد، فسقطوا في الجبّ. كل تلك المفردات ما كانت سوى علامات التفاف على واقع الحرب ومخافة من إحراز تقدّم كبير في نقاط سوريّة حساسة سواء في حلب أو جرابلس أو حماه…
القيادة الروسيّة وبحسب معلومات واردة من موسكو تعاطت مع تلك الخديعة بغضب. ثمّة سؤال طرحه خبير عسكريّ في بيروت لماذا لم تلحظ الرادارات الروسيّة تحليق الطيران الأميركيّ فوق الأجواء السوريّة والتعامل معها بشدّة، وبخاصّة أن طائراتهم منتشرة ما بين حميميم وطرطوس؟ ويقول مصدر عسكريّ بأنّ الروس كان عليهم أن يرصدوا ويتحولوا فوراً إلى قوة رادعة مانعة من حصول الاعتداء والمجزرة. إلاّ أنّ الإجابة الروسيّة جاءت مقتضبة، لقد باعتتنا خديعة الأميركيين وتعاطوا مع هذا الموضوع بلا أخلاقية مطلقة، وستتعامل القيادة الروسيّة مع هذا الموضوع بما هو فرق الاحتجاج اللفظيّ.
الأجواء السوريّة والروسيّة بدأت تميل نحو الحسم. لقد جار الروس الأميركيين في تطلعاتهم غير مرّة، وأنقذوهم من مسائل هم على علم بها، لكنّ ما حصل سيكون حافزًا لتوسيع العمليات العسكريّة في والاتجاه نحو الحسم السريع، ويعتبرون بأنّ حلب وحماه أساسيتان في هذه المعركة على الإرهاب، وستكون الخطّة القريبة وصل الحدود التركية – السوريّة بالحدود العراقيّة-السوريّة. وتشير معلومات بأنّ فلاديمير بوتين وبعد اجتماع عاجل للقيادة الروسية بحضور وزير الخارجية سيرغي لافروف، اعطى توجيهاته بعدم التساهل والاتجاه نحو الحسم، فلن يكون بالإمكان السكوت، المسألة متعلقة بوجود روسيا بصورة مباشرة، وتمّ إبلاغ الأميركيين بهذا الأمر. على المستوى الأميركيّ حاول وزير الخارجية جون كيري تبرير ما حصل واعتبر انّه خطأ في التقدير، حتمًا لم يصدّق الروس هذا الكلام، وفجاءه الجواب الروسيّ على الفور هل وزارة الدفاع في الولايات الأميركيّة المتحدة باتت تتعاطى في الحرب على الإرهاب بانفصال عن ما تقررة الإدارة الأميركيّة وعلى رأسها الرئيس باراك أوباما؟
ويقول المصدر الديبلوماسي العربي أنّ ما حصل في دير الزور متماه بالضرورة وبالكليّة وبصورة جذريّة واستراتيجيّة مع الغارات الإسرائيليّة على الجيش السوريّ في منطقة القنيطرة. فبالينتاغون يعتبر مختبراً استراتيجيّاً لعمليات مشتركة أميركيّة – إسرائيليّة، ووزير الدفاع الأميركي أحد الأعمدة الكبرى الداعمة لدور إسرائيليّ واستمرارها كقوة مؤثرة في مصير المشرق العربيّ، وهو متحفظ على مسألة القضاء على الإرهاب بصورة جذريّة، كما هو على خلاف دائم مع رئيسه باراك أوباما في قراءته لواقع المنطقة، وهو معارض بشدّة للاتفاق الإيرانيّ- الدوليّ المبرم السنة الماضية ومعارض للدور الروسيّ الكبير في سوريا والعراق. لقد تمّت غارة القنيطرة بالتنسيق الكامل مع الأميركيين وقد كان على الروس أن ينتبهوا، وتمّت غارة دير الزور بالتنسيق مع الإسرائيليين وقد كان على الروس أن ينتبهوا، لكن على ما يبدو بانّ الروس في النهاية انتبهوا وههدوا وهم ماضون في توسيع رقعة الخرب على الإرهاب بتشدّد وعدم مهادنة.
نتيجة لذلك سوريا ولبنان والمنطقة أمام مرحلة حاسمة. إنها الحرب، فإذا انتصر الخيار الروسيّ في الحسم يتحدّد مصير المنطقة وفقًا للشروط التي يفرضها الحسم، وإذا لا فالمنطقة أمام امتحان صعب للغاية. بالنسبة لكثيرين، الرجاء ان يتمّ الانتصار على الإرهاب لننطلق نحو عالم جديد ومتوازن.