القوى الداخلية غارقة في تفاصيل قانون الانتخاب، والناس يفكرون: هل تقود الأزمة إلى تهديد استقرار لبنان؟ لكنّ اللعبة تتخذ أبعاداً أخرى لدى الذين يمتلكون القرار، وتحديداً واشنطن وطهران.
في الأسابيع الأخيرة، برز بوضوح أنّ لبنان سيكون إحدى الحلقات الحسّاسة في «الكباش» الأميركي– الإيراني:
بعد ضغوط واشنطن على لبنان لإقرار التشريعات اللازمة لمكافحة التبييض والتهريب والتزوير، في العامين الفائتين، وإصدارها القانون المتعلق بتجفيف مصادر تمويل الإرهاب، والمقصود به «حزب الله»، يتّجه الأميركيون إلى ترجمةٍ أكثر توسّعاً للقانون. وعلى الأرجح، لن يمرّ هذا الأمر بلا تداعيات سياسية ومالية في لبنان.
أدرك «حزب الله» مغزى الخطوات الأميركية الأخيرة، فقرّر القول: «نحنا هنا، ولدينا الأوراق في أيدينا». وجاءت جولة «الحزب» الإعلامية، غير المتوقعة، في المنطقة الجنوبية المشمولة بالقرار 1701، بمثابة رسالة واضحة إلى الذين يعنيهم الأمر.
لكنّ الصورة بالنسبة إلى الأميركيين مختلفة. ونظرتهم إلى «حزب الله» ودوره هي جزء من نظرتهم إلى لبنان ككل، وإلى موقعه ودوره في الشرق الأوسط، والتي يترجمونها منذ سنوات، ولاسيما بعد انطلاق ما سُمّي «الربيع العربي».
المتابعون لنهج واشنطن يشرحون تصوُّرها كالآتي: في العام 2006، قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس إنّ الشرق الأوسط سيتغيّر. وربما كان القلائل فقط مقتنعين بأنّ هذا التوقّع قابل للتحقّق. لكنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد بلغ اليوم منتصف الطريق.
ويقولون: المخاض الجاري في المنطقة سيؤدي إلى ترسيخ متغيّرات استراتيجية في كل دولها، خصوصاً لجهة تعميم الحريات العامة وأسس الديموقراطية. وينظر الأميركيون إلى لبنان بوصفه نواةً لهذا المشروع. فهو البلد الشرق أوسطي الوحيد القائم تاريخياً على التنوّع واحترام الحريات والممارسة الديموقراطية، على رغم الشوائب التي تعتريها.
ويتعاطى الأميركيون مع لبنان بوصفه ركيزة للمشروع. ولذلك، هم يحرصون تماماً على عدم حصول اهتزاز في استقراره السياسي أو الأمني أو الاقتصادي أو الاجتماعي. ولا تبدو هذه المسألة صعبة بالنسبة إلى بلد صغير كلبنان، إذا تمّ عزله عن التداعيات الإقليمية الخطرة.
لذلك، يضيف هؤلاء، تعتمد واشنطن وحليفاتها الغربيات سياسة واضحة في هذا الاتجاه تترجمها الخطوات الآتية:
1 – اعتبار القرارات الدولية خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، بدءاً بالقرار 1701، وصولاً إلى القرارات الأخرى ذات الصلة.
2 – دعم السلطة المركزية اللبنانية لإبقاء المؤسسات الشرعية على قيد الحياة، ولو في الحدّ الأدنى، لأنّ سقوط الدولة اللبنانية ممنوع. ومن هنا الحرص على عدم وقوع المجلس النيابي في الفراغ، أيّاً كان الخيار الذي سيتم اعتماده لتجنّب ذلك.
3 – دعم الجيش اللبناني، بالسلاح والعتاد والمعلومات، لتمكينه من ضبط الوضع الداخلي، في مواجهة الخلايا الإرهابية في كل المناطق اللبنانية (طرابلس، عبرا، عين الحلوة…) ودعم لبنان في مواجهة مخاطر اختراق الإرهابيين للحدود الشرقية، ولاسيما عبر عرسال. فممنوع أن تستقلّ «داعش» بأيّ بقعة لبنانية، أيّاً كانت مساحتها.
4 – المضي في مراقبة النظام المصرفي والمالي اللبناني بما يوفّر له الأمان، بحيث لا يكون «حصان طروادة» في توريط القطاع المصرفي العالمي، والنظام المصرفي الأميركي، بأموال غير مشروعة.
وأرسل الأميركيون إشارات واضحة إلى التزامهم هذه الأهداف في لبنان. وفيما ينخرط الأميركيون ميدانياً في دعم الجيش اللبناني لمواجهة الإرهاب عبر بوابة الحدود الشرقية، جاء هبوط المقاتلة الأميركية في قاعدة رياق الجوّية قبل أيام بمثابة رسالة دعم قوية متعددة الاتجاهات. فرياق هي أيضاً بوابة بعلبك- الهرمل.
ولم يتأخّر ردّ الحريري على جولة «حزب الله»، بجولة جنوبية غير متوقعة أيضاً، شاركه فيها وزير الدفاع وقائد الجيش. وهذا معناه أنّ الأمور ممسوكة وإن بدت أحياناً غير ذلك.
وأما الحدث الديبلوماسي الأكثر أهمية فكان إطلاق الولايات المتحدة ورشة مجمّعها على رقعة شاسعة من الأرض، في تلة عوكر المشرفة على العاصمة، على 5 سنوات، وبكلفة مليار دولار، لتكون السفارة الأكبر لواشنطن في الشرق الأوسط.
وكانت السفيرة إليزابيث ريتشارد واضحة في تحديد رمزية هذه الخطوة: إنها رسالة قوية للشعب اللبناني بأننا معكم على المدى الطويل، وأننا نعتزم مواصلة روح التعاون والشراكة التي سادت في رحلتنا سوياً منذ مئتي عام تقريباً.
ويتفاءل المتابعون: هذا يعني أنّ الوضع اللبناني سيكون «تحت السيطرة» في السنوات المقبلة، فلا مجال لفوضى تؤدي إلى انهيار السلطة اللبنانية الصامدة، ولو في الشكل. فالكيانات تهتزّ في الشرق الأوسط، لكنّ الكيان اللبناني لن يسقط، ولو تعرّض لخضات مرحلية.
وفي معنى آخر، لا يمكن سقوط الاستقرار اللبناني فيما واشنطن تولي هذا الاستقرار درجةً عالية من الأهمية. وسيبدو الوضع اللبناني عملياً وكأنه تحت الحماية الأميركية المباشرة في المراحل المقبلة. والمؤشرات إلى ذلك تتزايد، خصوصاً في الفترة الأخيرة.
ومن المفيد أن يدعو الرئيس ميشال عون إلى جعل لبنان مركزاً عالمياً رسمياً للحوار بين الأديان والحضارات، بدعم من الأمم المتحدة، لأنّ ذلك ينسجم تماماً مع دور لبنان في المنطقة والعالم.
كل ذلك ماذا يعني بالنسبة إلى الأزمة الداخلية المستعصية، أزمة الانتخابات النيابية؟
المتابعون يقولون: المهم هو عدم وقوع الفراغ. والأرجح أنّ هناك تمديداً للمجلس النيابي سيتم اللجوء إليه. وخلال فترة التمديد يمكن أن يدور حوار حول قانون الانتخابات وسائر الإصلاحات المطلوبة. فلا مجال لاستمرار حال الاهتراء السياسي بلا معالجة.
النظرة إلى مستقبل لبنان تستدعي أيضاً تغييراً في الطاقم السياسي الذي أثبت أنه مهترئ وغيرُ مؤهّل لمواكبة التحديات المطلوبة. ولذلك، على قانون الانتخابات أن يكون كفيلاً بإدخال دمٍ جديد إلى الحياة السياسية والسلطة. والحراك المدني جزء من هذه الدينامية.
هذا يعني أنّ لبنان سيتغيّر. ومن الحكمة أن يختار اللبنانيون أسلوب التغيير المتضمّن أقل مقدار من الوجع. وهذا الأمر ليس صعب التحقيق، إذا رضخ الجميع للعقل والحكمة لا لهواجس الانفعالات السطحية.