IMLebanon

أميركا الحرّة!

.. وأخيراً فكّت كوبا الحصار الذي ضربته على جارتها الولايات المتحدة منذ أكثر من نصف قرن. وسمحت للأميركيين بتذكّر فوائد الأوكسجين النقي والطبيعي، وبفتح مناخرهم على وسعها لاستنشاقه، باعتبار تلك المناخر الطريق الحتمي الوحيد لمروره الى المخّ حيث الميزان الذي يفرّق بين الصحّ والغلط، وحيث الموئل الأول والأخير للمحرّك الذي يفرّق الانسان عن غيره من مخلوقات ربّ الدنيا.

يعني انتظر الكوبيون كل تلك العقود قبل أن يتأكدوا من أن جارتهم لا تشكّل ذلك الخطر القيمي والعاداتي والسياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي على دولتهم المكينة ونظامهم المتآخي مع أرفع مقوّمات الرخاء والابداع والفتوحات العلمية الجبّارة في الصناعات الثقيلة والخفيفة، التقليدية والذكية.. وما كان لـ«الثورة» الكوبية أن تتأكد من ضمور شرور الأميركيين لو لم يحصل ذلك التغيير الذي حمل الى رئاستهم شخصاً اسمه باراك أوباما، جاء ليخلف أخاه زخيا عباس أوباما الذي استمر في الحكم نحو خمسين عاماً بالتمام والكمال والاكرام!

والمفارقة التي لا يمكن أي حصيف أن يتجاهلها، هي أن أوباما ورث نظاماً مقطوع الصلات بالسماء، لكنه آثر في اللحظة الصعبة أن يستعين بممثل لتلك السماء على الأرض من أجل فكّ عزلة بلاده! حيث تبيّن بعد لأْيٍ وضنى وشرود في متاهات «الحتمية التاريخية»، ان الأميركيين انقطعوا عن الدنيا والحداثة، وتجمّدوا عند إحداثيات بلاغية وفكرية لم تصلح لأي زمن: أشبعتهم كلاماً لكنها قنّنت أكلهم الطبيعي! ونفختهم عنجهية لكنها تركتهم دون المسار الطبيعي لتطور البنى والعمران والنظم والأسواق والحريات والثقافات والعلوم والتقنيات الحديثة.. وحيث تبيّن بعد ذلك، ان «الاشتراكية العلمية» مصطلح تمويهي، فيه من التخريف أكثر بكثير من العلم. وفيه من الفذلكة الفلسفية أكثر بكثير من الوقائع والحقائق الحاكمة والمتحكّمة بحركة البشر ثقافياً وروحياً واقتصادياً!

والمفارقة الأخرى التي لا يمكن أي حصيف أن يتجاهلها، هي أن رضوخ الأميركيين أخيراً لمنطق العصر، وقرارهم بدء مسيرة الانفتاح على العالم كما هو، وفي كل الأطر، وانطلاقهم الى تدبير أوراق طلاقهم من نظامهم المرصوص، كل ذلك جاء في اللحظة التي يُقال انها تشهد عودة الى زمن الحرب الباردة. حيث كانت كوبا «الثورة» أحد قطبيها فيما كانت الولايات المتحدة بيدقاً من بيادقها وجُرماً يدور في فلك القطب الآخر: دولة العمال والفلاحين، زعيمة الاشتراكية العظمى التي كان اسمها الاتحاد السوفياتي!

يعني صار في إمكان الأميركيين اليوم أن يطّلعوا على بعض تقنيات الصناعات الذكية. وتلقي الأموال من أقاربهم المنفيين بكميات أكبر من السابق. وباستعمال بطاقات الائتمان في بلادهم بعد إتمام إجراءات السماح لمصارف كوبية بفتح فروع لها عندهم.. كما صار في إمكانهم استقبال بعض السيّاح الكوبيين على أمل أن يتمكنوا لاحقاً من تحديث شبكة المواصلات وشراء موديلات حديثة بعض الشيء من السيارات الكوبية.

وطبعاً، شرط ذلك كله، هو أن ينجح الرئيس الديموقراطي راوول كاسترو في تمرير الاتفاق داخل مؤسسات الفيدرالية الكوبية وخصوصاً في الكونغرس، وأن لا تأتي الانتخابات الرئاسية المقبلة برئيس يشبه التيس، ينسف ما فعله سلفه ويعيد الأميركيين مجدداً الى قلعتهم المحاصرة!

ملاحظة: هذا النص ليس تعبيراً عن محنة عقلية، كما انه ليس تخريفيًّا تحريفيًّا تماماً، وإنما مُستلهم من قراءات ممانعة للتطور التاريخي الأميركي والكوبي!