يحلو لسياسيين، على خلفية الحراك الشعبي الحالي، مقارنة أوجه الشبه بين العراق ولبنان هذه الأيام. في الأول فساد مستشر وطبقة سياسية مهيمنة على مقدرات البلاد. في الثاني فساد أكثر استشراءً وطبقة سياسية أكثر هيمنة وتجذّراً أباً عن جد. في بلاد ما بين النهرين أزمة كهرباء حاولت حكومة حيدر العبّادي حلّها بالمسكّنات فـ»بجّت» تظاهرات شعبية.
في بلاد الأرز أزمة نفايات حاولت حكومة تمّام سلام حلّها بالمحاصصة فانفجرت حراكاً مطلبياً. وفي كل من العراق ولبنان صراع خليجي وأميركي على النفوذ مع إيران. هنا تبدأ التساؤلات: في العراق تعمل الولايات المتحدة بوضوح على «الفوضى الخلاقة» لإعادة رسم الخريطة السياسية، عبر غرفة عمليات إعلامية في عمان تحرك المتظاهرين، وصولاً إلى محاولة فرض رئيس وزراء حليف كأياد علاوي للخروج من الانسداد السياسي. فهل يصحّ المضي في المقارنة حول اعتماد واشنطن «اللعبة» نفسها في لبنان وصولاً إلى إعادة رسم المشهد السياسي وانتخاب «أياد علاوي لبناني» رئيساً؟
يروي مطلعون أن السفير الأميركي في بيروت ديفيد هيل حبس أنفاسه الأربعاء الماضي إلى ما بعد انتهاء المؤتمر الصحافي لنهاد المشنوق، خشية أن يمضي وزير الداخلية في توضيح من كان يقصد بـ»دولة عربية صغيرة تقوم بدور فعال في التمويل والتحريض على التظاهر وسيُعلن عنها عند اكتمال التحقيقات». بالتأكيد لم تكن تلك زلّة لسان. فلا الاصطفاف السياسي الذي ينضوي الرجل فيه يسمح بزلّات كهذه، ولا الشاشة التي تحدث عبرها («العربية») تسمح بها أيضاً. كان واضحاً أن المشنوق يوجّه رسالة إلى «الدولة الصغيرة»، ومن خلفها إلى «الدولة الكبيرة»، بأن «لعبتهما مكشوفة». ولم تتأخر «أل بي سي» و»الجديد» في الرد على ما نشرته «الأخبار» عن زيارات مسؤولين في المحطتين لقطر، بالتصويب على المشنوق: الأولى اتهمته بالكذب، والثانية أعادت عرض فيديو الوزير «الماجن» أثناء إجازته العائلية في ميكونوس اليونانية رغم مضي أكثر من أسبوعين على انتشاره.
الأميركيون
قادرون على إدارة الفوضى ما دامت لا تكلّفهم دماً ومالاً
تجمع كل الأطراف السياسية على أحقية المطالب الشعبية التي رفعها الحراك الشعبي الأخير، لكنها، في الآن نفسه، تجمع على التشكيك في منطلقات بعض منظّميه وأهدافهم وارتباطاتهم. عبارة «الفوضى الخلّاقة» والحديث عن الدور الأميركي والقطري في تشجيع بعض الناشطين يترددان في كل المجالس السياسية. لم يعد ارتباط بعض «قادة الحراك» بالسفارة الأميركية تهمة بعدما أقرّ السفير الأميركي ديفيد هيل بوجود هذه العلاقة أمام الرئيس نبيه بري.
هل يعني ذلك انتهاء الحرص الأميركي على الحفاظ على الاستقرار في لبنان؟
يبدو حزب الله، بحسب مصادر مطلعة، مقتنعاً بأن المصلحة الأميركية بإبقاء هذه المظلة لم تنتفِ بعد. ولا يجد تعارضاً بين ذلك وبين تشجيع الحراك الشعبي ما دام «تحت السيطرة» و»ضرباً تحت الحزام». واشنطن على وشك الدخول في مفاوضات مع طهران حول قضايا المنطقة. في انتظار ذلك، لا بأس من محاولة «تقليم أظافر» إيران في المنطقة، من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن. الأميركيون قادرون على إدارة الفوضى طالما لا تكلّفهم دماً ومالاً. تدير واشنطن الفوضى المنفلتة في ليبيا، ولن تعصى عليها إدارة قليل من «الفوضى المضبوطة» في لبنان. قد يساعد ذلك في إرباك حزب الله ــ وإيران ضمناً ــ في لبنان وسوريا، والأهم إحراج الحزب المتمسك بمرشّحه الرئاسي ميشال عون لمصلحة رئيس تسوية. بعد أكثر من ربع قرن على معادلة «مخايل الضاهر أو الفوضى»، يعيد الأميركيون طرح المعادلة معدّلة: «التخلي عن ميشال عون أو الفوضى». أما بصمات الدوحة فغير خافية: ساحة ومتظاهرون وقنوات تتكبّد نفقات البث المباشر بعدما كانت حتى الأمس القريب تصرف موظفين بسبب ضائقتها المالية. عادت قطر إلى مشاكسة السعودية الغارقة في حرب اليمن والمنشغلة بمن سيملأ فراغ ملكها المريض.
نظرة تيار المستقبل إلى الحراك ليست أقل تشكيكاً. لا يعني ذلك «أننا كتيار مارس السلطة لفترة طويلة غير مسؤولين عن الضائقة المعيشية والمطالب المحقة التي رُفعت، والتي تشكّل إنذاراً جدياً لكل القوى السياسية»، بحسب مسؤول بارز في التيار. لكن، هنا أيضاً، قناعة بأن «وحياً أميركياً وتمويلاً قطرياً» وراء بعض محرّكي التظاهرات. وهنا، أيضاً، اقتناع بأن كلمة السر هي: الانتخابات الرئاسية. في رأي المصادر، ما يجري هو أحد وجوه «الكباش الرئاسي» بين واشنطن وطهران. إيران، بعد الاتفاق النووي، باتت جزءاً من المجتمع الدولي ولم يعد بإمكانها تجاهل رغباته، وهذا المجتمع يضغط في شكل غير مسبوق لإجراء انتخابات رئاسية. في رأي المستقبليين، «من يفاوض اليوم حسن روحاني وجواد ظريف لا قاسم سليماني»، لذلك يدرك الإيرانيون:
1ــ أن أي حل في العراق سيعني التقليل من حصتهم الحالية؛
2ــ أن الموقف الروسي في سوريا سيزداد تطوراً لمصلحة تسوية لا يكون الرئيس بشار الأسد موجوداً فيها، وهذا ما يفسّر التسليم الأميركي والسعودي بدور موسكو في الحل، والاستثمارات الخليجية بمليارات الدولارات في روسيا؛
3ــ أن أي حل في اليمن يتطلّب التنازل للسعوديين بما يظهرهم منتصرين.
4ــ أنهم في حاجة إلى «شرعية عربية» لا توفرها إلا السعودية، بعدما انتهت «شرعيتهم السورية» وباتت «شرعيتهم العراقية» مهددة.
عليه، قرر الإيرانيون أن «يطحشوا» في لبنان، قبل تغيّر موازين القوى، للإتيان بـ»رئيس ضمانة» لا يكون على شاكلة ميشال سليمان: في هذا السياق عطّلوا العمل الحكومي بذرائع مختلفة. فجاء الردّ في وسط بيروت بحراك يراد منه أميركياً الضغط لانتخاب «رئيس تسوية»، ووُضعت «الزبالة اللبنانية» على سلّم اهتمامات الـ»سي أن أن» ومجلس الأمن.
«رئيس التسوية» يستتبع «رئيس حكومة تسوية». لن يكون سعد الحريري رئيساً لحكومة إذا لم يكن ميشال عون رئيساً للجمهورية. فؤاد السنيورة بات خارج المعادلة. تجربة نجيب ميقاتي لا تشجع 8 آذار على معاودة الكرّة. بقي تمام سلام ونهاد المشنوق. يحق للمموّل القطري، على هامش الكباش الرئاسي، تصفية بعض الحسابات. المشنوق أكثر خشونة. تجربته مع حلفاء الدوحة السلفيين لا تزال في البال. فجأة سُحبت الشعارات التي رُفعت في اليوم الأول ضد رئيس الحكومة وبات وزير الداخلية نجم مقدمات النشرات الأخبارية.