أكاذيب وأنباء مزيفة أو مختلقة، ومفردات سوقية، وتباهٍ بعائلة بالغة الثراء، وتتفيه نخبة أميركا الثقافية، وتحريض على السود وتهديد المسلمين والمهاجرين واللاجئين، وتقزيم زعماء الولايات المتحدة، والوعد بهدم مؤسسات عمر بعضها من عمر الدولة، وتغيير أنماط حياة، وإعادة تعريف السياسة، وتسفيه الديموقراطية، والتنكّر جهراً وعلانية للقيم الحقوقية… تلك كانت بعض ما خلفته أغرب، ولا أقول أسوأ أو أقذر، معركة انتخابية أميركية تابعتها منذ أربعين عاماً أو أكثر.
أضف إلى غرائب هذه الحملة مؤشرات عدة كشفت عنها أحداث تخللتها تشير إلى أن الدول الكبرى، وربما عديد من الدول المتوسطة والصغرى، صارت بعضها يتعامل مع بعض باستخباراتها وليس بسياسييها أو ديبلوماسييها، أو أنها في أحسن الأحوال تدفع إلى السياسيين والديبلوماسيين بفتات العلاقات تشغلهم بها وتبعدهم عن الاهتمام بالقضايا الحيوية أو المهمة. تشير أيضاً إلى أن أحقاد الدول لا تموت سريعاً، وإلى أن بعض أفراد وربما جماعات النخب السياسية لا تنام الليل إلا بعد أن تكون أرست قواعد اشتباك جديد، ولا تغيّر نظام حكم إلا وفي جعبتها مشروع حرب مع عدو خارجي،
ابتداء بقضية الرسائل الإلكترونية المتعلقة بالسيدة هيلاري كلينتون وانتهاء بما صار يطلق عليه اللغز الأعظم في علاقة السيد فلاديمير بوتين الشخصية بفوز الرئيس دونالد ترامب، رصد الخبراء أصابع أجهزة استخبارات على كلا الجانبين عملت بجد واجتهاد لمدد متفاوتة. من هذه المدد ما لم يزد على أيام، ومنها ما يمتد بعيداً إلى مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي. أتصور أن بعض التدخلات الاستخبارية سيمر مر الكرام، أو أن الصحافيين لن يتوقفوا عنده طويلاً إذا تحسنت علاقة الرئيس الجديد بهم وبالصحافة عموماً. الخشية الكبرى ستكون عندما تخرج التسريبات عن طبيعة العلاقة بين المستر ترامب رجل الصفقات النسائية والعقارية الشهير وبين أجهزة الاستخبارات الروسية في أعوام التسعينات. الخوف كل الخوف، كما عبر عنه مفكرون أوروبيون، أن يكون الرجل الذي سوف يحكم أميركا لأربع وربما ثماني سنوات قادمة هو في الحقيقة عميل دربته الاستخبارات الروسية وأعدته ليكون رئيساً لأميركا.
أي انتقال سلس وسلمي ممكن أن نتوقعه للسياسة الخارجية الأميركية إذا كان الرئيس المنتخب يكره كل ما هو قديم أو متعارف عليه في علاقات أميركا بالدول الأخرى؟ هو لا يحب نظم الأحلاف التي شكلتها أميركا بهدف حماية الدول الصديقة والمتعاونة. أعلن وأظنه سوف يفرض على الحلفاء تنفيذ خطته التي تقضي بأن تدفع الدولة الحليفة تكاليف حمايتها التي تتحمل معظمها الولايات المتحدة في الوقت الراهن. أحد الصحافيين الأوروبيين تصور وضعاً هزلياً لرئيسة وزراء بريطانيا تحمل قائمة بطلبات حماية تتوجه بها إلى واشنطن وتقدمها إلى الرئيس الأميركي في البيت الأبيض. تتضمن القائمة طلباً بحماية محطة طاقة نووية في إقليم ويلز لمدة عام وحقلاً لآبار النفط في بحر الشمال والقاعدة البحرية البريطانية في البحرين. يتسلم الرئيس الأميركي القائمة ثم يستدعي مستشاراً يعمل في مكتبه ويطلب منه الاتصال بالبنتاغون وأجهزة أخرى لتقدير كلفة حماية البنود الواردة فيها. تمر دقائق معدودة ويعود المستشار حاملاً الورقة ويسلمها للرئيس الذي يقوم بدوره بقراءة تفاصيل الكلفة بصوت عالٍ. مطلوب من بريطانيا تنفيذ عمليات استخبارية في عشر دول آسيوية والشرق الأوسط ووقف تصدير منتجات صناعية معينة إلى الولايات المتحدة لمدة عامين. مطلوب منها أيضاً التضييق على صحيفة بريطانية دأبت على توجيه انتقادات لسياسات أميركا الخارجية. تنفيذ هذه المطالب لن يعفي حكومة لندن من سداد نصيبها في موازنة الأحلاف الأخرى المتعددة العضوية التي تنشئها حكومة واشنطن لأهداف وقتية أو عاجلة.
ألمح ترامب أكثر من مرة إلى أنه ينوي فرض نظام جديد للحماية الجمركية. يدرك ترامب وبعض جماعته أن أميركا طرف في اتفاقية التجارة الدولية وعضو متزمت في المنظمة المنبثقة عن هذه الاتفاقية، إلا أنه لم يخف يوماً عداءه لكل ما صنعته العولمة من سياسات وأنظمة وقوانين وعلاقات بين الدول. لم يخف يوماً نية إسقاطها ودحرها، فالعولمة في رأيه سبب انحدار أميركا. سمعت من يقول إن هذه الوعود أو الدعايات الانتخابية لو دخلت حيز التنفيذ فإنها سوف تخدم مصالح روسيا التي تحلم بقيادة مرحلة من العولمة الروسية في حال انحسرت العولمة الأميركية وتأخر دور العولمة الصينية. المقصود بعولمة روسية هو أن تتسم العولمة القادمة بمزاج روسي ومؤهلة لخدمة وترويج النموذج السياسي والتنموي الروسي فيتم تطبيقه في شتى أنحاء العالم. تعتمد روسيا في تفاؤلها بشأن شكل العولمة القادمة وتوجهها، إلى قناعة سياسية واستخبارية تقضي بأن النموذج الديموقراطي الأميركي ساقط لا محالة على أيدي الرئيس دونالد ترامب، وربما سقط معه، وبالمثل النموذج الرأسمالي كما بشرت به أميركا.
عقول سياسية عدة حبلى بتصورات وتوهمات. حكام كثيرون في أفريقيا وآسيا وصلتهم رسائل من ترامب شخصياً أو من بعض مساعديه توحي بأن الإدارة الجديدة في واشنطن سوف تحمي أنظمة الحكم غير الديموقراطية في مواجهة القوى والحركات المدنية والديموقراطية. ينقلون عن الجنرال فلين كبير مستشاري ترامب تصريحه، بين تصريحات أخرى على النمط نفسه لقناة روسيا الدولية، وهي قناته المفضلة منذ فترة غير قصيرة، قوله إنه يعمل في التحضير لحملة عالمية لتمكين الشعبويين في كل أنحاء المعمورة من شن تمرد على مستوى العالم. اقتراح كهذا سوف يجد في الغالب دعماً روسياً، ويمكن، كما يدور في أذهان مفكرين سياسيين وإعلاميين، أن يصبح الأساس لهيمنة أميركية روسية مشتركة.
أمور وتطورات واقتراحات لو جرى الحديث عنها قبل سنوات لما صدقها أحد. بل إن أحداً ما كان ليصدق أن شخصاً بمواصفات دونالد ترامب يمكن أن يتقدم للترشح في انتخابات رئاسية ويفوز. لم يخطر في بال أحد أن رئيساً يأتي ويعلن أنه سوف يهدد بالعودة إلى سياسة الصين دولتين، دولة عاصمتها بكين ودولة عاصمتها تايبيه، إذا لم تستجب الصين لطلباته. قالها واضحة ومعبرة، قال إنها صفقة تعاملني فيها بكين تجارياً كما أحب فأعاملها كما تحب وإلا تعود الصين اثنتين. أتصور أنه ربما دار في ذهن مقربين منه أنه إذا اتخذ من الصين عدواً فقد يفلح في إقناع الأميركيين بأن الروس أصدقاء وحلفاء طيبون، فضلاً عن أنه يكون قد استدرج الصين إلى سباق تسلح وأعمال عنف أو تجاوزات تفقدها مكانتها في الإقليم وفي العالم.
ربما لن أكون الشخص الوحيد الذي لم يستطع على امتداد الحملة الانتخابية التوصل إلى تحديد واضح لسياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط. قال كلاماً واضحاً بالنسبة إلى إسرائيل، وهو ليس جديداً في حد ذاته، ولا يبشر بخير لأميركا أو للدول العربية التي قررت أن شراكة مع ترامب أنفع وأبقى ولو على حساب فلسطين. هو أيضاً ضد الإسلام الراديكالي كما يسميه ويعد بحرب شرسة للقضاء عليه. أتخيل حجم خيبة الأمل حين يعيد اكتشاف ما اكتشفه قبله باراك أوباما وزعماء روسيا وأوروبا ونعرفه نحن العرب، وهو أن لا أمل يرجى من دول أو زعامات عربية راهنة في الشرق الأوسط سوف تتحالف معه ولن تنفعه في هذا المشروع تحديداً
حقيقة، لا أعرف كيف سيتمكن دونالد ترامب من أداء مهمات إدارة دولة عظمى كالولايات المتحدة، نصف سكانها يكرهونه ويكرههم، نصف قادة حزبه لن يسمحوا له بتغيير مواقف الحزب في السياسة الخارجية، غالبية رجال الاستخبارات ونسائها لا يثقون به ولا يثق بهم. الصحافيون اتخذوا قرارهم، هذا الرئيس لا يرتاح ولن يرتاح. الرجل أمامه صعوبات جمة، والعالم أيضاً، أما أميركا فلن تصبر.