أين كانت أميركا التي فُو ِجَئت كما فاجأت العالم٬ عندما حملت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض٬ خلافًا لكل الاستطلاعات والتقديرات والإجماع الطاغي في وسائل الإعلام على أن منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون هي التي ستفوز وبنسبة تصل إلى 90 في المائة٬ كما قالت صحيفة «نيويورك تايمز»٬ مع فتح الصناديق وبدء عملية الاقتراع؟!
ولماذا كانت مشاعر الضيق والإحباط عند شرائح واسعة من الأميركيين٬ وقد جّيشها ترامب جيًدا٬ وصبت الأصوات لصالحه٬ خافية عن المستويات السياسية العليا في الحزبين الديمقراطي والجمهوري على السواء٬ وهو ما جعل «نيويورك تايمز» تلاحظ أنه كما سحق زملاءه الجمهوريين في الانتخابات التمهيدية٬ دمر أحلام الديمقراطيين في الانتخابات العامة٬ التي تجّيش لها باراك أوباما شخصًيا٬ لتجيء النتيجة بمثابة صفعة لكل الذين غفلوا أو تعاموا عن هذا القسم الغائر من جبل الجليد الشعبي.
ثم هل كانت لغة التهجم والنزق والتقبيح٬ التي جلد بها ترامب في البداية٬ رفاقه ومنافسيه الـ16 من الجمهوريين٬ قبل أن يقصيهم ويحظى بالترشح٬ بعدما وصف جيب بوش مثلاً بأنه «الطاقة المنحطة»٬ وماركو روبيو بأنه «ماركو الصغير»٬ ثم جلد بها منافسته هيلاري كلينتون التي لم يتو رع عن تسميتها «السيدة الفاسقة»٬ قائلاً إنه سيسوقها إلى السجن إذا انتُخب رئيسا.. فعلاً هل خاطبت هذه اللغة الفظة نو ًعا من مشاعر السخط كانت خافية عند الشرائح التي أيدته٬ وظهرت استجابة لقوله إنه يقّدم نفسه مرشح التغيير٬ واعًدا بأن يعيد إلى أميركا عظمتها؟!
في 22 أكتوبر (تشرين الأول) اختار ترامب أن يلقي خطاًبا في غيتيسبورغ بولاية بنسلفانيا من موقع تاريخي سبق أن ألقى فيه الرئيس أبراهام لينكولن خطاًبا شهي ًرا عام 1863 .مجمل الخطاب الذي ألقاه ركز على أنه يأتي مرش ًحا للتغيير٬ هدفه تدمير فساد النخب السياسية٬ وأورد سلسلة من الوعود س ّماها «عقًدا ثورًيا» مع الناخبين الأميركيين٬ ومن أولوياته الشروع على الفور ومن اليوم الأول في محاربة «ذلك الفساد المنتشر في واشنطن»٬ ووقف التوظيفات الفيدرالية٬ ومنع الموظفين في البيت الأبيض والكونغرس من العمل لحساب مجموعات الضغط٬ إضافة طبًعا إلى كل طروحاته العنصرية حول منع العرب من الدخول إلى أميركا وطرد المهاجرين وتعليق الهجرة٬ والقضاء على «داعش».
من ذلك الحين تزايدت أعداد الجماهير التي ظهرت في مهرجاناته٬ ولم تتمكن وسائل الإعلام العريقة والمراقبون من ملاحظة ذلك الشيء المهم الذي كان ينمو٬ وهو أن اللغة التي يستعملها ترامب في تقبيح خصومه تمثّل الوجه الآخر تعبيرا عن السخط المكنون عند شرائح واسعة من الشعب الأميركي.
في هذا السياق٬ تقول صحيفة «واشنطن بوست» إن أعداًدا كبيرة من الناخبين الممتعضين يريدون التغيير وقلب الصفحة٬ لكن المشكلة أن وسائل الإعلام لم تع ذلك جيًدا٬ والحملة الديمقراطية لم تفهم هتافاتهم٬ ولا أدركت أن تلك التجمعات الكبيرة التي شاهدناها في مهرجانات ترامب ستذهب إلى أقلام الاقتراع لتأييده.
لعل المشكلة أن الذين ظنوا حتى اللحظة الأخيرة أن كلينتون ستجرفه٬ كانوا ينظرون إلى مثالب ترامب بعينه٬ إلى فضائحيته وخطابه الهابط٬ ولم يصدقوا لوهلة أن أميركا٬ أميركا إياها٬ يمكن أن تنتخب شخ ًصا مثله٬ وهؤلاء نسوا تما ًما التنبه إلى دوافع الذين كانوا يصفقون لترامب بحماسة٬ على خلفية سخطهم على الوضع السياسي لأسباب اقتصادية تتعلق بانحسار الوظائف٬ وهو ما بّينته نتائج التصويت٬ خصو ًصا في الأرياف حيث تراجعت فرص القطاع الصناعي٬ وحيث يشكو الناس من أن واشنطن تخلت عنهم.
لقد فات حملة الديمقراطيين والوسط الإعلامي ومؤسسات الاستطلاع٬ أن هناك فعلاً ما يمكن تسميته «أميركا الممتعضة» من الواقع الراهن٬ وأنها موجودة في أوساط عمال المناجم و«تروستات» صناعة السيارات٬ والعاطلين عن العمل٬ وهذه الأميركا تستمع بحماسة إلى «زعيق ترامب»٬ لمجرد أنه يدعو التغيير ويتعهد بمحاربة الفاسدين في واشنطن٬ وطرد اللاتينيين الذين «سرقوا منكم الوظائف»٬ كما ردد دائ ًما٬ رغم أن «الروبوتات» هي التي سرقت الوظائف وقلَّلَت الفرص٬ وهو عندما يتعّهد الآن بتوفير 25 مليون فرصة عمل في خلال عشرة أعوام٬ ينسى أن «الأميركيين يمكن أن ينتخبوا روبوتًا رئيًسا في المستقبل»٬ كما كتبت «فورين بوليسي» قبل عامين!
إنه الوجه الآخر لأميركا التي اختارت ترامب رئي ًسا٬ فهل يمكن الحديث عن الوجه للآخر لترامب نفسه٬ خصو ًصا بعد كلماته الأولى التي جاءت تصالحية تمد يد التعاون إلى الداخل٬ حيث فرضت الديمقراطية طقوسها الراقية فو ًرا؛ فتلقى ترامب التهنئة من كلينتون وأوباما٬ في حين تعّهد هو بأن يكون رئي ًسا لكل الأميركيين٬ وأن يعمل على مضاعفة النمو الاقتصادي وتحقيق حلم المواطنين٬ قائلاً إنه «آن الأوان لالتئام الجراح٬ وأن نتوحد كأمة واحدة وشعب واحد.. وبالنسبة إلى الذين اختاروا عدم دعمي أقول لهم إنني أحتاج إلى دعمكم من أجل بناء أمة عظيمة».
طبًعا كلمات قليلة بعد النصر الانتخابي ليست كافية للحديث عن وجه ترامب الآخر٬ أو وجه ترامب الرئيس بعد ترامب البولدوزر الانتخابي٬ على طريقة «مدفع فالت» كما اتهمته كلينتون عشية الانتخابات٬ أو ترامب الذي «سيشن حرًبا نووية» كما اتهمه أوباما٬ لكننا في النهاية نتحدث عن أميركا التي تحكم الرئيس بمقدار ما يحكمها الرئيس وأكثر٬ نتحدث عن الـ«system «الذي يحكم أميركا ويقود الرئيس في النهاية٬ وترامب ليس رئي ًسا لإحدى جمهوريات الموز٬ ثمة مؤسسات وقواعد تحكم مسالك القرار وجيش من المستشارين.
لا معنى لحديث البعض بأن الطبع يغلب التطبع٬ بمعنى أن النزعة الفردية الشرسة والعدائية المبتذلة يمكن أن تغلب في لحظة ما على تصرفات ترامب أو على ردات فعله٬ ففي النهاية المبالغة في الاستراضية الفظة التي تميز بها كرجل أعمال٬ ستبقى خارج البيت الأبيض٬ والحزب الجمهوري الذي استعاد الرئاسة بعد عهدي أوباما سيكون حاض ًرا لإحاطته ودعمه وإنجاحه.
في عام 1981 انتُخب الجمهوري رونالد ريغان رئي ًسا لفترتين انتهتا عام ٬1989 وشكلتا حقبة تاريخية ناجحة في العهود الأميركية. ريغان جاء إلى البيت الأبيض من السينما؛ كان ممثلاً مغمو ًرا تقريًبا٬ وكانت هوايته الطهي في المطبخ مع زوجته نانسي٬ أكثر من ملازمة المطابخ السياسية في البيت الأبيض٬ لكنه وضع استراتيجية كان هدفها استعادة أميركا لهيبتها٬ والمواقع التي خسرتها في العالم٬ جراء سياسة جيمي كارتر٬ أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي آنذاك٬ ومع بداية ولايته الثانية حقق برنامجه في محاربة الاتحاد السوفياتي ومحاصرة الشيوعية وبداية تفكيك حلف وارسو بالتعاون مع الأوروبيين.
ترامب ممثل تلفزيوني فاشل ورجل أعمال ناجح٬ والذي قد يجعله رئي ًسا ناج ًحا هو الـ«system «الذي يدير الإمبراطورية الأميركية في الواقع!