ليته لم يفعلها. أمين معلوف ليس سطراً في الأدب. هو عناوين لمسارات روائية تركت في جغرافيا الحكايات مسالك. هو مكتبة لسلالة من القضايا تتقاسم مصائرنا. هو فوق شبهة التقليد وفي مرتبة الترهبن للكتابة. حطَّ جذوره العربية في القارات الخمس. شطح إلى مطارح بعلامات تاريخية دامغة. استحق جدارة الكاتب واللغة. بات عضواً في الأكاديمية الفرنسية. لكلامه صوت مختلف يعوَّل عليه. لذلك، ليته لم يفعلها.
ليس أديباً عابراً. له قرّاء دائمون، يتفقون عليه ويختلفون حوله. يتناول التاريخ مادة ويعيد تأليفه. لا يخفى المراد من إبراز حقبة أو الإطلالة على حضارة أو سرد شخصيات تخوض تجارب شتى. انتقائي خلاَّق وساحر قصّ. ومطالب بالمزيد، يأتيك به متفاوتاً، بين جيد وأكثر، العادي فيه قليل، الكشف عنده كثير. كان بمثابة «اسم علم» لبناني عربي، إليه ننتسب لمكانة رفيعة ومقام نبيل. لذلك، ليته لم يفعلها.
ببالغ الدهشة حصلت السقطة. أن يطل أمين معلوف من على شاشة إسرائيلية، ليتحدث عن كتاب جديد، بعيداً عن السياسة، لهو شأن سياسي وخدمة مجزية للعدو الإسرائيلي، وخرق لجدار المقاطعة الأدبية والأكاديمية المنتشرة في بلاد الغرب. الحصار هذا آخر ما تبقى من «أسلحة سلمية» للجم البربرية الإسرائيلية. غيره انتظم في حملة «قاطع» العالمية.
لذلك ليته لم يفعلها.
هذه فلسطين. لا قضية تضاهيها حقاً ونبلاً. يكفيها، أنها آخر بقعة محتلة ومستعمرة من الصهيونية ظلماً. لا ظلم يضاهي هذا الارتكاب الإسرائيلي ـ الدولي. لا ضرورة لرسم الصورة المخزية للعرب المستغربة. التعب منها ممنوع. إهمالها إخلال بواجب أخلاقي. التجرؤ عليها كقضية خيانة، تناسيها أو تجنُّبها، استقالة من مقام المثقف. فالمثقف «موهوب استثنائي بالحس الأخلاقي الفذ وهو يشكل ضمير البشرية». المثقف «شخص قادر على قول الحق في مواجهة السلطة، كفرد قاسٍ وبليغ وشجاع إلى درجة لا تصدَّق، وغاضب لا يعرف أي قوة دنيوية تكون كبيرة ومهيبة جداً، بحيث لا يمكن انتقادها وتوبيخها على سلوكها» (جوليان بندا). وأمين معلوف في مقام المثقف.
لذلك ليته لم يفعلها.
المثقف مؤتمن على السياسة، مهما حاول تجنبها. السياسة شأن خطير إنسانياً، فهي حاملة قضايا أو مدمرة قضايا. والمثقف يفترض أن يبقى أميناً لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد… «لا شيء يشوِّه أداء المثقف أكثر من تغيير الآراء تبعاً للظروف والتزام الصمت»، إن مثقفاً يصير سلطة غير أخلاقية يثير الاشمئزاز (إدوارد سعيد)
لذلك ليته لم يفعلها.
فلسطين بحاجة إلى صوت أمين معلوف، بمقدار حاجتنا إلى قراءة إنتاجه. هذا نغتذي منه أفراداً وجماعات، ذاك انتماء للتاريخ الفلسطيني بكل دمائه وشهدائه ومآسيه. ومعلوف، مسكب في التاريخ. فأين فلسطين؟ خارج «سلالم الشرق»؟
«إني أتهم». هذا هو صوت إميل زولا، عند ارتكاب فرنسا لجريمة عنصرية في محاكمة درايفوس ـ وقف ضد هياج جماعات تصيح «اصلبه اصلبه». فلسطين أفظع. عالم «متحضر»، «أنيق»، «حقوق إنساني»، «ديموقراطي»، «حرِّيَّاتي» الخ… سنّ قوانين صارمة تمنع فلسطين من الوجود، وتمنع شعباً من الوجود، وتمنعه من الشكوى. ظلم شاهق لا ظلم أكثر أصالة منه. ومثل هذا يتطلب من أمين معلوف، اللبناني أولاً، العربي ثانياً، الفرنسي أخيراً، أن يرفع صوته الفلسطيني العربي الفرنسي، على طريقة زولا: إني أتهم. ومن حق معلوف أن يفعل ذلك، مهما بلغت الخسائر. ولكنه لم يفعلها، بل فعل العكس. أعطى المعتدي مكافأة أخلاقية يحتاجها، في دفاعه عن كيانه وعدوانه وظلمه.
لذلك، ليته لم يفعل.
ولبنان، ضحية من ضحايا «إسرائيل». لم تكن رواية حقيقية عن «قانا الأولى». لكن رواية الصورة كافية. لم يكتب روائي عن قانا الثانية. لكن مقام الشهداء الصامت يحكي. حصار بيروت وتدميرها. حروبها ضد المخيمات والمدن والقرى. سقوط آلاف الشهداء. كل ذلك وشم في أرواحنا، ورسوم في مخيلتنا، وتستحق أن يعقد لها فعل من «الهوية القاتلة»، تحت عنوان، «الهويات المقتولة». ونحن من التبعية المزمنة للمقتولين والمقتلعين بالآلة العسكرية «الإسرائيلية». أليس كل ذلك مدعاة لتحصين المثقف في مواقفه الأخلاقية؟
لقد فعلها أمين معلوف. فعل بحجم الارتكاب. لست معنياً بالتبرير. الواقعة فضيحة. المدافعون عن سقطة معلوف، سقطوا من قبل في التسوية على حساب فلسطين والفلسطينيين ولبنان واللبنانيين.
يعيش العرب وأهل الحكم ورسل التكفير موسم الهجرة عن فلسطين. كثيرون استقالوا من دورهم الفلسطيني. كثيرون اختاروا ظالماً يحمونه وظالماً يشهِّرون به. مهمة المثقف أن يقف ضد الظلم وأن يسمي الظالم، أكثرية تخلت عن دورها للإعلام المنحاز أو المقبوض عليه. إن قلت فلسطين، قيل لك: أين أنت. هذا موضوع مضى وانتهى. مآلنا الثقافي الإبداعي لا يتناسب وسياسة التخلي من قبل المثقفين العرب. من ينحاز إلى فلسطين لا ينحاز للظلم العربي الشائع.
على أن هذا الواقع لا يعفي أمين معلوف من مراجعة موقفه وتصحيح ما فعله.. لدينا رغبة في الحفاظ على أمين معلوف أكثر منه. نحن من دونه نشعر بالنقص. ومعه، فلسطينياً ولبنانياً وعربياً، نشعر بالكرامة والنبل ونؤمن بأن الأفق أمامنا أزرق.
ليته يفعل عكس ما فعله.