أثار حوار أمين معلوف مع محطة تلفزيون «إسرائيل 24» ضجة كبيرة في العالم العربي، بين من اتهمه بالتطبيع مع العدو ومن استنكر الحملة عليه واعتبر ظهوره على الشاشة العبرية مسألة عادية لا تستحق كل هذه الحرب عليه. لكن بعض الذين اتخذوا موقفاً منه أو معه لم يقرأ كتاباته ولم يشر إلى مسيرته التي أوصلته إلى هنا.
منذ كتابه الأول «الحروب الصليبية من وجهة نظر عربية» وأمين معلوف يبحث في الهوية، وفي التلاقي العربي- الأوروبي. حتى الحروب بالنسبة إليه تشكل مجالاً للتلاقي. وبقي هذا همَّه الأساس في رواياته وأبحاثه ومقالاته كلها، من «ليون الإفريقي» و «سمرقند» إلى «التائهون»، مروراً بـ «سلالم الشرق» وقبلها «صخرة طانيوس». حياة أبطال رواياته هي حياته. تحولاتهم هي تحولاته. ولربما كان هذا البحث المستمر في تلاقي الشرق والغرب أحد أسباب حصوله على جوائز كثيرة، منها جائزة «غونكور» المرموقة. ثم تتويج مسيرته باحتلال كرسي كلود ليفي شتراوس رقم 29 في الأكاديمية الفرنسية، أو مؤسسة «الخالدين»، كما يطلق عليها. قال يوم تتويجه في الأكاديمية: «اليوم هناك جدار في المتوسط بين الفضاءات الثقافية التي أنتمي إليها (…) طموحي هو المساهمة في هدمه. لطالما كان هذا هدف حياتي وكتاباتي وسأواصل السعي إليه معكم، تحت نظر ليفي شتراوس الحكيم».
أمين معلوف متعدد الهويات، ليس باكتسابه جنسية، أو جنسيات غير اللبنانية. هو على خطى المثقفين القدماء، ولد في مكان وارتحل إلى آخر، حيث المزيد من المعرفة والحرية وإمكان اكتساب الجديد. هو «ليون الإفريقي»، وهو «الخيام»، وابن سينا وابن رشد وابن خلدون… جميعهم رحالة في الثقافات والمعارف. جميعهم إسلاميو الدين عالميو الثقافة والمعرفة. لكن ذلك لا يمنعه أو يمنعهم من الاتصال بالحقل السياسي. حتى المعرفة العلمية المحضة، والمعلوف ليس عالم رياضيات، تتصل بالسياسة. شترواس، وهو من أهم علماء الأنثروبولوجيا، ومؤسس مدرسة في هذا العلم، لم يكن بعيداً من السياسة، بل هو في عمقها الحضاري والثقافي. وما دراساته عن الشعوب «البدائية» ومركزية الحضارة الأوروبية إلا تأكيد لذلك.
أمين معلوف لا منتم، بالمعنى الوجودي للكلمة. لكنه في الوقت نفسه محسوب على العرب أو العرب يحسبونه عليهم. هو منهم وإليهم. لا يكفي أن يؤكد تعدد هوياته وانتماءاته ليخرجه الآخرون، بمن فيهم «الخالدون»، من هذه الهوية. ولأنه يمثل الثقافة بعمقها «الهوياتي» والتاريخي، ولأنه في هذا الموقع يتوقعون منه أن يمثلهم عالمياً لا أن يمثل فرنسا أو التوجه الغربي. ويأخذون عليه أن كثيرين من المؤرخين والمثقفين الأوروبيين والأميركيين الكبار يقاطعون دولة الاحتلال، من موقع أخلاقي وإنساني، خصوصاً أنه يعبر في كتابه «اختلال العالم» (le dereglement du monde) أفضل تعبير عن هذا الموقف. لكنه في الوقت نفسه يقول إن «الفقير والغني، المتعجرف والمسحوق، المحتل والخاضع للاحتلال، جميعهم، ونحن كذلك، في عوامة واحدة هشة، وسنغرق معاً». هذا التناقض لا يمكن أن يفهم، لا في إطار الهويات المتعددة ولا في إطار الانتماء أو الشرعية الأخلاقية التي يتمسك بها (روبرت فيسك). وهو تناقض غير مفهوم، إذ كيف يتساوى الفلسطيني المقتلع من بيته المنزوعة كل حقوقه، بالإسرائيلي المحتل، أو الأميركي المتعجرف بالعراقي المسحوق المبتلى بالإرهاب نتيجة الاحتلال؟ كيف يمكن أن يكون هؤلاء في مركب واحد؟
عندما يغوص أمين معلوف في التاريخ وفي الثقافة بعمقها يبدع أي إبداع. وعندما يتعاطى السياسة بسطحيتها يسقط. مقابلته مع التلفزيون الإسرائيلي كانت إحدى سقطاته إذ أضفت شرعية أخلاقية على الاحتلال من رجل يقدره العرب وغير العرب. كان الأجدر به أن يقف موقف المؤرخة البريطانية كاثرين هال التي رفضت جائزة إسرائيلية بمليون دولار كي تقول للمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية: أنت جزء من الاحتلال.
في كل الأحوال ليس أمين معلوف أول مثقف عربي يطبّع مع إسرائيل ولن يكون الأخير، فهناك من يقف في الصف منتظراً دوره.