ما إن انتهى لقاء السفيرة الاميركية دوروثي شيا يرافقها وفد من الكونغرس الاميركي برئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، حتى سافرت الى واشنطن. وعلى رغم من انها لم تفصح عن سبب زيارتها الى العاصمة الاميركية، الا ان وصولها الى واشنطن قبل ساعات من بدء زيارة الدولة للرئيس الفرنسي الى الولايات المتحدة الاميركية والتي سيحضر فيها الملف اللبناني يفتح الباب امام كثير من التكهنات، خصوصا انّ في عداد الوفد الفرنسي المكلفين متابعة الملف اللبناني. ذلك ان بعض المسؤولين اللبنانيين كان قد سمع أن ملف لبنان سيخضع لدينامية جديدة مع انطلاق سنة 2023، ولا شك في أن البشائر بدأت بالظهور منذ الآن، إن من خلال نقاشات مجلس الامن او خصوصا من خلال القمة الاميركية ـ الفرنسية في واشنطن.
صحيح انها زيارة دولة تلك التي يقوم بها الرئيس ايمانويل ماكرون لواشنطن، لكنها الثانية من نوعها الى العاصمة الاميركية خلال تولّيه مسؤولياته الرئاسية، فالاولى حصلت خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب. والمعروف ان زيارة الدولة هي أرفع الدعوات للزيارات التي توجّه الى رؤساء الدول وزعمائها.
بالتأكيد هنالك ملفات ملحّة وذات اهمية فائقة ستتصدر المحادثات الاميركية ـ الفرنسية، والتي تم التحضير لها جيدا إن في واشنطن او في باريس. فالاولوية المطلقة هي للحرب الاوكرانية والنزاع مع روسيا والآثار الاقتصادية السلبية التي طاوَلت دول اوروبا وأزمة الغاز والعلاقات مع دول الخليج وملف النزاع مع الصين والوضع في افريقيا. ولكن سيجد الملف اللبناني مكاناً له بين هذه الملفات المزدحمة، وهو ما كانت قد أكدته مصادر واشنطن وباريس على حد سواء. وتم اختيار موعد الزيارة بعناية لكي تكون منتجة وتحديداً بعد انتهاء الانتخابات النصفية الاميركية والتي خرج منها الرئيس الاميركي مرتاحاً.
كذلك اختار الرئيس الفرنسي الذي يعاني ازمات داخلية، ان يمهّد جيداً لاجتماعه من خلال زيارة قام بها الى الفاتيكان، والذي يحظى بتأثير لا بأس به على الرئيس الاميركي الكاثوليكي. فالبابا فرنسيس كان قد طرح وقف الحرب في اوكرانيا مُعرباً عن استعداده للقيام بالجهود المطلوبة في هذا المجال.
ولا حاجة للتذكير ايضا بإيلاء الفاتيكان اهتماماً خاصاً بالملف اللبناني نتيجة القلق الكبير الموجود لديه بسبب خطورة الازمة التي يمر بها لبنان. وفي منتصف هذا الشهر من المفترض ان يعقد مؤتمر في العاصمة الاردنية عمان بسَعي فرنسا وترتيبها سيحضره اضافة الى الرئيس الفرنسي والملك الاردني، كلّ من تركيا ومصر وايران والسعودية وربما العراق للبحث في مشكلات المنطقة ومنها الملف اللبناني.
ومن الطبيعي الاستنتاج أن هذه الدينامية الجديدة في اتجاه الملف اللبناني لا بد من تَلمّس عناوينها في مؤتمر عمان، ذلك انه يحصل بعد زيارة ماكرون لواشنطن، اضافة الى ان الدول المشاركة في المؤتمر تجمع السعودية وايران. كما ان تركيا، والتي تستعد لفرض معادلة اقليمية جديدة في شمال سوريا، ستكون حاضرة ايضاً. وفي الواقع لا بد من رصد الحضور التركي الجديد انطلاقاً من شمال سوريا، خصوصا ان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عاد خلال الاشهر القليلة الماضية الى سياسة التنسيق الكامل مع حلف دول شمال الاطلسي، او بتعبير ادق، الى تفاهم كامل مع الادارة الاميركية. صحيح ان الدخول التركي الى شمال سوريا يشبه الى حد بعيد دخول الجيش السوري الى لبنان عام 1976، بمعنى أنه سيكون وفق برنامج واضح ومحدد سلفاً، وتحت عنوان التفاهم مع القوى الاساسية وليس التصادم معها مثل روسيا وايران والسلطات السورية، الا انه لا شك سيُثير حساسية ايران ولو من دون اعلانها عن ذلك.
تكفي الاشارة الى الدور الجديد الذي تتلهّف أنقرة لأن تلعبه في الشرق الاوسط، والذي قد يلفح لبنان ولو من بعيد. فعلى سبيل المثال كانت مؤسسة «الباروميتر العربي» للاستطلاعات قد اجرت العام الماضي استطلاعاً حول الزعماء الأكثر تأثيرا في بعض البلدان العربية ومنها لبنان، حيث حاز اردوغان على تأييد 25 % من اللبنانيين والامير محمد بن سلمان على 24 % ومرشد الثورة الاسلامية في ايران خامنئي على 20 %. اما في الاردن فنال اردوغان 54 % وولي العهد السعودي 13 % وخامنئي 5 % فقط. ولا شك في ان دخول الجيش التركي الى شمال سوريا سيُنعش مؤيديه في الدول المجاورة وسيرفع من نسبتهم. وهذه التبدلات الاقليمية ستفرض بلا شك دينامية جديدة لإنتاج تفاهمات واسعة لا بد من ان تشمل لبنان. ومن هنا الاعتقاد أن هذه البشائر لا بد من ان تبدأ بالظهور بعد القمة الاميركية ـ الفرنسية، ومن ثم مع مؤتمر عمان. لكن الحركة من المفترض ان تنشط بمقدار اكبر مع انطلاق السنة الجديدة، على ان تُؤتي بثمارها في فصل الربيع المقبل كما يرجّح البعض. لكن علينا ان نتذكر دائماً أننا في الشرق الاوسط حيث المفاجآت تظهر بنحو غير محسوب وتفرض تعديلاتها.
وفي هذا الوقت من الواضح ان الازمة في لبنان ستبقى في حال المراوحة، لا بل انها قد تشتد بسبب غياب الضوابط المطلوبة. فالمجلس النيابي سيبقى اسير العجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فلا النائب جبران باسيل في وارد تنفيذ انعطافة لمصلحة سليمان فرنجية ولا «حزب الله» سيقبل معه بلائحة الاسماء البديلة التي يحملها. وكذلك لم يكن صحيحاً او بالأحرى دقيقاً ما جرى تسريبه حول تواصل وتفاوض رئاسي بين فرنجية و«القوات اللبنانية». ذلك ان معراب لا تبدو ابدا في هذا الوارد. وفي المقابل لا قدرة للفريق الآخر على ايصال النائب ميشال معوض والذي تقتصر مهمته في الاساس على قطع الطريق على فرنجية لا بفتح الطريق امامه (أي معوض) الى قصر بعبدا. الواضح انّ ثمة ظروفاً جديدة مطلوبة لإحداث الخرق اللازم توصّلاً الى تفاهم أوسع وأشمل حيال المرحلة المقبلة.
«حزب الله» يدرك ان لبنان في حاجة الى المساعدة السعودية لإعادة بناء الاقتصاد المهدّم ولو انه لن يعلن ذلك ابداً. والسعودية متمسّكة بمدخل إلزامي للقبول بمد يد مساعدتها، والذي يرتكز على قيام سلطة لا «تخضع» لـ«حزب الله» وفق توصيفها، والعواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن وباريس تريد ذهنية جديدة لممارسة السلطة في لبنان، ذهنية بعيدة عن مبدأ «الزبائنية السياسية» والمصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة. ويورِد هؤلاء مثلاً على ذلك والمقصود ملف الكهرباء، ذلك ان صندوق النقد الدولي وضع شرطاً لمساعدة لبنان كهربائياً بتشكيل الهيئة الناظمة، او على الاقل وضع اعلاناً في وسيلة اعلامية دولية كمدخل لذلك، وانه فور حصول ذلك سيجري مَد لبنان بالكهرباء من الاردن، على ان يلي ذلك وصول الغاز من مصر. لكن وبعد طول مماطلة متعمّدة، أبدت وزارة الطاقة استعدادها لوضع الاعلان، ولكن استنادا الى القانون الذي لم يجرِ اقراره في مجلس النواب، كونه يجعل من الهيئة الناظمة هيئة شكلية وهو ما يعني انه في ظل الظروف الحالية لن تحصل المساعدة «الكهربائية» من الخارج.
أضف الى ذلك الشروط المتبادلة في التشكيلات الحكومية، من خلال وضع وزارة الطاقة في موازاة وزارة المال وجعلهما وزارتين أبديتين في يد القوى الحزبية نفسها.
غالب الظن انّ التسوية التي تنتظر لبنان لا بد ان تجري ترجمتها برئيس جديد للجمهورية تم اختباره في المحطات الصعبة وأظهَر قدرته على مواجهة التحديات وأثبت شفافيته وبالتالي سَيره في إعادة تنظيم شؤون الدولة، على ان يرافقه رئيس حكومة متجانس معه ووزراء من المعيار نفسه. ومن البديهي ان يفضّل «حزب الله» اختيار المجرَّب على «المجهول» أيّاً كان.
وفي انتظار ذلك هناك تطورات اقليمية متسارعة، ستواكبها عودة سياسة العقوبات على من سيجري تصنيفهم من فئة المعرقلين.