IMLebanon

دولة فاشلة في مهبّ التفكّك

 

أن يكون السبب الحقيقي والفعلي للانفجار الذي ادّى الى تدمير بيروت، الاهمال وسوء الادارة، لا الاستهداف الامني او اعتداء مدبّر، فالمسألة عندها ابشع واخطر واسوأ. رغم انه ما زال من المبكر حصر الموضوع في اطار الاخطاء الادارية، الّا انّ ما حصل يأتي من ضمن سلسلة متتالية تؤكّد حال الاهتراء التي تنخر الادارة اللبنانية.

 

خلال انعقاد مجلس الدفاع الاعلى في القصر الجمهوري في بعبدا، أجمعت الاجهزة الامنية اللبنانية على نفي حصول اي قصف صاروخي جوي او تفجير متعمّد، وحصرت الاحتمالات بالأخطاء والإهمال الاداري. ورغم ذلك ما زال من المبكر حسم اسباب التفجير، في انتظار انتهاء التحقيقات الجارية.

 

لكن ثمة اسئلة عديدة وكبيرة لا بدّ من الاجابة عنها. فنيترات الامونيوم هو ملح أبيض لا رائحة له، يجري استخدامه كقاعدة لكثير من الاسمدة النيتروجينية في شكل حبيبات. هو منتج غير قابل للاحتراق، لكنه مؤكسد وقابل للانفجار بنحو مرعب، في حال تعرّضه لمصدر شديد الحرارة. وبالتالي، فالسؤال الاول والبديهي هو: لماذا لم يتمّ التخزين وفق القواعد العلمية المتبعة لعزل نيترات الامونيوم؟

 

والسؤال الثاني: لماذا أُبقيت هذه المواد كل هذه الفترة في مرفأ بيروت، فنحن نتحدث عن أكثر من 6 سنوات، فيما المنطقي والمفروض ان لا تبقى هذه المواد الشديدة الخطورة اكثر من اسابيع معدودة. فهل في الأمر صفقات مستورة؟

 

والسؤال الثالث هو: كيف يتمّ وضع مفرقعات نارية هي في واقع الامر بارود، الى جانب نيترات الامونيوم؟ وكيف يمكن تفسير ذلك اذا كان هنالك من تفسير؟

 

طبعاً هنالك كثير من الاسئلة حيال كل ما حصل، لكن الثابت انّ الاهتراء الذي ينخر الادارة الرسمية اللبنانية ادّى الى مصائب وكوارث كثيرة، كان آخرها تدمير بيروت في الامس، وهو سيؤدي الى المزيد مستقبلاً، طالما الذهنية القائمة ستبقى من دون تغيير، وهنا مسؤولية الطبقة السياسية الحاكمة.

 

فالمحاصصة في التعيينات، والتي لا تزال مستمرة منذ عشرات السنين، سجّلت مزيداً من «الوقاحة» في طريقة المحاصصة في التعيينات. وهذا يؤدي بطبيعة الحال الى توظيف «ازلام» لا كفايات، يخضعون لتلبية اوامر ولي نعمتهم والعمل لإرضائه، على حساب المهمة الوظيفية التي اوكلت اليهم. كما يؤدي الى هجرة اصحاب الكفايات الذين يرفضون في العادة «التزلّم» لهذا وذاك. وفي نهاية المطاف تصبح النتيجة معروفة سلفاً، اهتراء الادارة وانهيارها مع تصاعد الفساد.

 

ولم يعد سراً، انّه الى جانب البرنامج الذي يحمله صندوق النقد الدولي للبنان، هنالك طرح جدّي في الامم المتحدة يقوم على اساس تولّي خبراء في المنظمة الدولية الإشراف على اعادة بناء الادارة الرسمية اللبنانية وفق معايير صحيحة ونظيفة وعلمية، او بمعنى آخر وضع الادارة الرسمية اللبنانية تحت الوصاية الدولية. لكن الامم المتحدة لن تذهب في هذا الاتجاه من دون تفاهم سياسي جانبي، يضمن موافقة «حزب الله» ومنحه تطمينات سياسية.

 

لكن الضربة التي تلقّاها لبنان، مع التدميرالكامل لمرفأ بيروت، ادّت الى تبديل معطيات كثيرة على الساحة اللبنانية.

 

المعطى الاول، وهو خسارة لبنان احد اهم اوراقه الاقتصادية القوية. فلمرفأ بيروت ميزات كثيرة ومهمة ابرزها، انّه احد اهم المرافئ البحرية على طول الشاطئ الشرقي للبحر الابيض المتوسط.

 

والمعطى الثاني، انّه يؤمّن مستلزمات الاسواق العربية وهو ما كان يزعج اسرائيل الساعية الى منح ميناء حيفا هذه الميزات.

 

والمعطى الثالث، انّ العواصم الغربية، اضافة الى صندوق النقد الدولي، كانت تنظر الى مرفأ بيروت كمكان اساسي للفساد، اضافة الى انّه يؤمّن مصالح متعددة ومباشرة لـ«حزب الله».

 

وما حصل في الامس ادّى الى تدمير كامل لمرفأ بيروت. وانّ اعادة اعماره واعادته الى العمل تستلزم مئات الملايين من الدولارات، والبعض يقول نحو مليار دولار، فمن اين للبنان ان يأتي بهذه الاموال، رغم انّ رئيس الحكومة يفكر بمحفظة تمويل، لكن يُخشى عدم نجاح هذه الفكرة، خصوصاً انّ الثقة مفقودة كلياً، واموال اللبنانيين في المصارف صرفتها السلطات اللبنانية المتعاقبة، والحديث هو عن «هيركات» لأرصدة المودعين.

 

وهو ما يعني، انّ اعمار مرفأ بيروت بواسطة الشركات الاجنبية لن يحصل من دون تثبيت ادارة جديدة للمرفأ ستكون مختلفة كلياً عن ادارته الحالية.

 

والأهم أنّ الحكومة اللبنانية، لا بل السلطة بكاملها، اضحت بعد الانفجار وقبله استقالة الوزير ناصيف حتّي في ادنى درجات الضعف بما يُهدّد بتحلل الدولة اللبنانية وتفتتها.

 

وعلى سبيل المثال، فإنّ الرئيس سعد الحريري تداول مع الرئيس نجيب ميقاتي، بعيد حصول الانفجار، في موضوع الاستقالة من مجلس النواب. وكذلك فعل مع وليد جنبلاط. ورغم وجود آراء ايّدت هذا التوجّه الّا انّ نصيحة فرنسية جمّدت الفكرة.

 

صحيح انّ فكرة الاستقالة من مجلس النواب، الذي اصبح يفتقد للشرعية الشعبية بعد حراك 17 تشرين، تمّ البحث فيها بنحو مستفيض داخل وخارج لبنان، الّا انّ حصول ذلك الآن في رأي الفرنسيين سيؤدي الى انهيار الدولة لا الى تغيير النظام القائم. اضف الى ذلك، انّ «حزب الله»، الذي نجح في تثبيت توازنات لمصلحته داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، سيواجه اي خطوة ستؤدي الى انتخابات مبكرة من دون التفاهم المسبق معه. ذلك انّ أي انتخابات نيابية مبكرة يجب ان تسبقها ترتيبات وتفاهمات سياسية واسعة تحاكي المرحلة اللاحقة.

 

في العراق حصل شيء مشابه ولكن مع ترتيبات جانبية سمحت بفتح الطريق. فرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، والذي تسلّم السلطة منذ فترة قصيرة، دعا الى إجراء انتخابات عامة مبكرة، بعد اشهر من الاحتجاجات، والتي تشبه احتجاجات لبنان. وعيّن السادس من حزيران 2021 موعداً لإجرائها، بدلاً من ايار 2022 ، وهو في المناسبة موعد الانتخابات النيابية اللبنانية ايضاً. مع الاشارة ايضاً الى انّ الانتخابات التشريعية العراقية السابقة كانت جرت في العام 2018 وشهدت نسبة إقبال متراجعة، تماماً كما حصل في لبنان. لكن الفارق انّ الغطاء والتفاهمات السياسية مؤمّنة في العراق بخلاف لبنان.

 

اضف الى ذلك، وجوب انتظار لبنان لما ستؤول اليه الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني المقبل، والاهم المفاوضات حول ترسيم الحدود اللبنانية الجنوبية البحرية كما البرية. ربما لأجل كل ذلك وجد الرئيس الفرنسي انّ الوقت حان لزيارة بيروت، فهو قلق كما العواصم الغربية الأخرى بما فيها واشنطن، للضعف الفاضح الذي اصاب الدولة اللبنانية، ما بات يجعلها على قاب قوسين من التفكك والزوال. وهو لذلك يريد ان يكرّر النصائح التي حملها وزير خارجيته الى لبنان، مع التأكيد أنّ فرنسا لن تتخلّى عن اللبنانيين، وهو لن يتطرّق الى الهفوة الديبلوماسية لرئيس الحكومة مع وزير الخارجية الفرنسية، لا بل على العكس سيعرض المساعدة، ولكن مع الطلب مجدداً ان يُجري لبنان إصلاحات ضرورية وملحّة، وهي باتت معروفة.