IMLebanon

هوكشتاين جاء بأسئلة تنسف أجوبة

 

الابتسامات والسلامات التي وزعها الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين يمنة ويسرة خلال زيارته الخاطفة للبنان، مشفوعة بكلامه المتفائل بالوصول الى «اتفاق» على ترسيم الحدود البحرية، أخفتا حقيقة هي انّه جاء خالي الوفاض من أي موقف اسرائيلي جاد يوافق على ما كان حمله إلى تل ابيب من موقف لبناني موحّد في مطلع آب الماضي، وهو حقوق لبنان وحدوده المستقيمة الكاملة التي تحاذيها البلوكات 8 و9 و10 وحقل قانا بكامله بما فيه النتوء لجهة بحر فلسطين المحتلة.

وبدل ان يأتي هوكشتاين بجواب اسرائيلي شافٍ ووافٍ يتوافق مع ما شاع في الإعلام من ايجابيات منذ زيارته في اول آب، إذ به يأتي بأسئلة اسرائيلية وُعِدَ بأن يتبلّغ اجوبة عنها قريباً، في الوقت الذي سبقته شركة «انيرجين باور» إلى الاعلان قبيل توجّهه براً من اسرائيل إلى لبنان عبر معبر الناقورة، انّها أرجأت استخراج الغاز من حقل «كاريش» الذي كان مقرّراً هذا الشهر إلى الشهر المقبل، علماً انّ لا أحد يعرف ماذا يجري في أعماق البحر الآن منذ وصول هذه السفينة إلى حقل «كاريش» إلّا الولايات المتحدة الاميركية، واسرائيل والراسخون في علم التنقيب في البحار.

 

ولم ينس احد ما كان ذكره الاعلام الاسرائيلي إثر مغادرة هوكشتاين بيروت، حيث انعقد الكابينت الاسرائيلي يومها للبحث في ملف ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، واعلن انّه أُحيط علماً من الأجهزة الامنية الاسرائيلية انّه تمّ تأجيل استخراج الغاز من حقل «كاريش»، ثم تطور الامر لاحقاً وإلى الآن إلى حدّ التصريح حيناً والتسريب احياناً من انّ اسرائيل تفضّل تأجيل أي اتفاق على الترسيم إلى ما بعد انتخابات الكنيست في تشرين المقبل.

 

فهذا يدل، في رأي المتابعين، انّ اسرائيل لا تريد فعلاً التوصل إلى اتفاق مع لبنان، خوفاً من ان ينعكس ذلك سلباً على شعبية رئيس الوزراء الاسرائيلي يائير لابيد وحلفائه، الذين يستعدون لخوض الانتخابات في مواجهة منافسه بنيامين نتنياهو وحلفائه. ويبدو انّ واشنطن التي على الرغم من انّها ترغب بترسيم سريع، تؤيّد هذه الرغبة التأجيلية الاسرائيلية لأنّها تريد لحليفها لابيد الفوز على منافسه نتنياهو الذي يوجد بينها وبينه «ما صنعه الحداد».

 

لذلك، يقول متابعون لجولات هوكشتاين، أنّ ليس صحيحاً انّ واشنطن وتل ابيب «مستميتتان» لحصول اتفاق على الترسيم مع لبنان لكي تعوّضا اوروبا الفاقد الروسي من الغاز على ابواب الشتاء الاوروبي القارس. إذ لو كانتا في هذه «الاستماتة» لاستعجلتا الخطى، ولجاء هوكشتاين حاملاً الردّ الذي يقبله لبنان، فإذ بزيارته هذه المرة جاءت كما وصفها احد المراجع السياسية قبل ايام «زيارة كزدرة»، رغم حديثه كالعادة عن إحراز «تقدّم» وعن «تفاؤل» بالوصول إلى اتفاق لم يحدّد موعده. علماً انّ الرجل غادر السرايا الحكومية مباشرة إلى مطار رفيق الحريري الدولي متوجّهاً إلى قطر، بعدما كان الاعلام الاسرائيلي أوحى امس الاول بأنّه سيعود من بيروت إلى تل ابيب، اللهم الّا إذا صح ما يُقال من انّ قطر ستدخل طرفاً ثالثاً مع «كونسيرتيوم» شركتي «توتال» الفرنسية و»ايني» الايطالية بدلاً من «نوفاتك» الروسية التي انسحبت منه قبل اسبوعين.

 

ولعلّ المفارقة هذه المرة، انّ هوكشتاين بدل من ان يجتمع بالرؤساء الثلاثة في لقاء واحد كما حصل في الاول من آب الماضي، حيث تبلّغ منهم موقفاً موحّداً يفترض انّه نقله إلى الجانب الاسرائيلي، إذ به يجتمع بهم هذه المرة كل على حدّة، من دون ان يُعرف ما إذا كان هو رغب بذلك شخصياً ام انّ الرؤساء الثلاثة ارادوا ذلك. فهذه نقطة تستدعي التوقف عندها. فإذا كانت رغبة هوكشتاين «فتلك مصيبة»، وإذا كانت رغبة الرؤساء الثلاثة «فالمصيبة اعظم».

 

لكن بعض الذي تتبعوا زيارة هوكشتاين ذات الساعات القليلة، يقولون انّه كان على الرؤساء الثلاثة ان يصرّوا على الاجتماع به في القصر الجمهوري كما فعلوا في اللقاء السابق، تأكيداً لوحدة الموقف الذي ابلغوه ايّاه، حتى ولو كان هو طلب ان يلتقي بهم كل على حدة. لكن ما يقلّل من مخاوف وجود محاولة اسرائيلية لتفكيك عرى وحدة الموقف اللبناني، هو انّ هوكشتاين التقى كلاً من الرؤساء الثلاثة في حضور نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب (المكلّف رئاسياً التوصل مع الوسيط الاميركي) والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم. إلّا ان المشهد الخارجي لهذه اللقاءات الانفرادية لم يرتح له كثير من المتابعين الذين ظنوا بوجود نيات اسرائيلية غير سليمة قد تظهر لاحقاً.

 

ولوحظ انّ إعلام القصر الجمهوري قال انّ هوكشتاين «استمع إلى وجهة نظر لبنان حيال بعض النقاط التي يجري البحث في شأنها»، وأورد تصريحاً مقتضباً له، اكّد فيه «اننا احرزنا تقدّماً» وانّه «متفائل في الوصول إلى اتفاق».

 

اما إعلام رئاسة مجلس النواب فذكر انّ هوكشتاين عرض نتائج جولته وما حمله للبنان على إثر الاجتماع الاخير الذي ضمّ الرؤساء الثلاثة في بعبدا، وانّ الرئيس نبيه بري «اكّد تمسّك لبنان بـ«اتفاق الاطار» وعزمه على استثمار ثرواته في كامل المنطقة الاقتصادية الخاصة به، مشدّداً على ضرورة العودة إلى مفاوضات الناقورة للتفاوض غير المباشر برعاية الامم المتحدة وبوساطة الولايات المتحدة الاميركية وفقاً لاتفاق الاطار، حتى الوصول الى النتائج المرجوة».

 

في حين قال إعلام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي انّه جرى خلال الاجتماع بينه وبين هوكشتاين «مناقشة الافكار التي يحملها الموفد الاميركي، على ان يصار الى التشاور في شأنها وإبلاغ هوكشتاين الجواب عليها في وقت قريب».

 

وعلى رغم تفاؤل بعض المتفائلين، وبينهم من شارك في لقاءات هوكشتاين، فإنّ البعض لاحظ التباسات أحاطت بزيارة الوسيط الاميركي قبل ان تحصل، وتدفع إلى التساؤل: «هل انّ اسرائيل تريد توقيع اتفاق مع لبنان فعلاً مستجيبة لمطالبه تحت وطأة ضغط المقاومة بمسيّراتها فوق حقل كاريش، واصرارها على الذهاب إلى خيارات اخرى إذا لم تقرّ حقوق لبنان وحدوده في هذه «الفرصة المتاحة» بفعل الحرب الروسية ـ الاوكرانية وحاجة اوروبا إلى غاز البحر المتوسط كبديل من الغاز الروسي الذي توقفت موسكو عن ضخّها له».

 

ثمة من يقول في هذا السياق، انّ الحدّ الادنى الذي يمكن لبنان ان يقبل به إذا قرّرت اسرائيل تأجيل الاتفاق على الترسيم، هو ان تقدّم الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل ضمانات له لكي يبدأ التنقيب عن النفط والغاز في بلوكاته الحدودية وفي بقية البلوكات، من دون اي إعاقات، شرط ان لا يتمّ الضخ الاسرائيلي للغاز من حقل كاريش إلى حدّ توقيع الاتفاق على ترسيم الحدود، كون هذا الحقل هو من ضمن المناطق المتنازع عليها بين لبنان واسرائيل.

 

لكن يبدو انّ هوكشتاين لم يصل بعد إلى البحث في هذه الضمانات، فهو غادر بانتظار تبلّغ اجوبة لبنان عن اسئلة اسرائيلية نقلها، غالب الظن انّها تتعلق بالنتوء الجنوبي لحقل قانا، وما تطلب اسرائيل في مقابل الإقرار بحق لبنان به. ولكن المحادثات لم تكن حاسمة هذه المرة كما كان يريد لبنان، ما يعني انّ المسألة لا تزال «سمكاً في البحر»، وانّ الوضع إلى حين عودته من عدمها سيكون مفتوحاً على كل الاحتمالات. فالتجربة اللبنانية على الاقل دلّت الى انّ الاسرائيلي لا يتنازل عمّا يغتصبه الّا تحت الضغط، وإن تنازل فإنّه يتحاشى بألف اسلوب واسلوب ان يظهر انّه تنازل او أُرغِم على التنازل، والمثال على ذلك انّه انسحب من جنوب لبنان عام 2000 تحت ضربات المقاومة، لكنه انبرى إلى تبرير هزيمته يومها بالقول انّه انسحب من الاراضي اللبنانية بقرار ذاتي!

 

ولذلك، يعتقد بعض الذين تتبعوا محادثات هوكشتاين وما انتهت اليه حتى الآن، انّ خياري التوصل إلى اتفاق او نشوب حرب ما زالا واردين حتى إشعار آخر…