مع تجميد الملف الرئاسي، وملف التنقيب عن النفط في البلوكات البحرية لمعرفة الى أين ستذهب حرب غزّة من جهة، والمواجهات العسكرية التي تدور بين حزب الله والعدو الاسرائيلي على أثر هذه الحرب، بهدف إشغال” الإسرائيليين” عن الجرائم والمجازر ضدّ الإنسانية التي يرتكبونها بحقّ المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال في غزّة من جهة ثانية… عاد الوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية آموس هوكشتاين أمس، في زيارة مفاجئة وعاجلة الى لبنان. والتقى الموفد الأميركي خلالها عدداً من المسؤولين اللبنانيين وتكلّم في السياسة بدلاً من الحدود والنفط، في الوقت الذي دعت فيه بلاده من رعاياها الى مغادرة لبنان بسبب الوضع الأمني المتوتّر عند الحدود الجنوبية.
مصادر سياسية مواكبة لزيارة هوكشتاين رأت فيها تحرّكاً أميركياً فورياً لعدم امتداد الصراع العسكري من غزّة الى لبنان، على ما ذكر الموفد الأميركي بعد لقائه رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، وذلك لأنّ الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله قد طمأن الإدارة الأميركية في خطابه الأخير، عندما أوحى بأنّه لا يرغب بالتصعيد على الجبهة الجنوبية، إلّا أنّه أبقى على “غموض” خططه العسكرية المستقبلية عندما قال بأنّ “المواجهات مفتوحة على كلّ الإحتمالات والخيارات”… كما شدّد على أنّه سيعتمد معادلة “قصف مدنيين (لبنانيين) ، مقابل قصف مدنيين (“إسرائيليين”)”… وقد شهدنا أخيراً كيف قصفت “إسرائيل” مدنيين في بلدة عيناتا الجنوبية ذهب ضحيتها السيدة سميرة عبد الحسين أيّوب، وحفيداتها الثلاث ريماس وتالين وليان شور. وقام حزب الله بالردّ على “إسرائيل” وضرب مدنيين. ويبدو أنّ قرار حزب الله تؤيّده حكومة تصريف الاعمال، وإلّا لكانت أعلنت رفضها له، الأمر الذي يُقلق الإدارة الأميركية.
من هنا، تحدّثت المصادر عن أنّ زيارة هوكشتاين السريعة الى لبنان تصبّ في هدفين إثنين:
– الأول: أعلن عنه هوكشتاين بنفسه من دون تفسير ما تريده الإدارة الأميركية منه ضمناً، وهو إبقاء لبنان بعيداً عن الصراع الدائر في غزّة، من خلال الإلتزام بالتطبيق الكامل للقرار الدولي 1701 الصادر في 12 آب 2006. وقد شدّد أمام المسؤولين على ما ينصّ عليه في بندين أساسيين (بالنسبة لأميركا) من بنوده هما: وقف الأعمال الحربية بين حزب الله و”إسرائيل”، وبسط الجيش اللبناني سيطرته على كامل الحدود في المنطقة الجنوبية. وهذا يعني ضمناً، على ما تُطالب الولايات المتحدة من المسؤولين الضغط على حزب الله لعدم الإفساح في المجال له باتخاذ قرار فتح حرب موسّعة ومتواصلة مع “إسرائيل”، ومنع المقاومة الإسلامية لا سيما حركة حماس، بالتالي من استخدام الجنوب اللبناني منصّة لإطلاق صواريخها باتجاه “إسرائيل”. فضلاً عن مطالبة المسؤولين بتطبيق بند نشر الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية، على أن يعود له أمر إطلاق النار أو عدمه ضدّ العدو الاسرائيلي.
علماً بأنّ ما يُطالب به هوكشتاين يدخل ضمن “الاستراتيجية الدفاعية للبنان”، التي لم يتمّ الإتفاق عليها حتى الآن، بسبب الخلافات الداخلية القائمة بين القوى والأحزاب السياسية والكتل النيابية. وينسجم كلام هوكشتاين هنا، مع أصوات سُمعت في الداخل اللبناني تحدّثت عن وجوب نشر الجيش في المنطقة الجنوبية (المنتشر أساساً فيها)، وعلى الحدود مع فلسطين المحتلّة، سيما وأنّ القرار الأممي ينصّ على هذا الأمر. وثمّة سؤال يطرح نفسه هنا: هل يمكن اليوم تطبيق هذا البند في ظلّ توتّر الجبهة الجنوبية؟ أم أنّ المسألة تحتاج الى المزيد من الوقت والدراسة، سيما وأنّها شكّلت موضع خلافات وسجالات داخلية منذ صدور القرار المذكور وحتى يومنا هذا؟
– الثاني: السعي لوقف إطلاق النار، بهدف تسهيل المفاوضات حول تبادل الرهائن. هذا الملف الذي طُلب من مدير عام الأمن العام السابق اللواء عبّاس ابراهيم إدارته، لما له من باع طويل في المفاوضات الناجحة. فأكثر ما يهمّ “إسرائيل” اليوم هو الإفراج عن هؤلاء في أسرع وقت ممكن، خصوصاً وأنّ الضغوطات في الداخل تحشر رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو في الزاوية، وتتهمه بأنّه عاجز عن إعادتهم سالمين الى ذويهم، سيما وأنّه توفي نحو 60 رهينة منهم بسبب القصف “الإسرائيلي” على غزّة، ويبقى نحو 190 رهينة “إسرائيلية” وأجنبية على قيد الحياة حتى الآن. كما أنّ الرأي العام الأميركي والأوروبي وحتى السياسي، قد بدأ يتغيّر مع مشاهدة العالم للمجازر الإسرائيلية الوحشية والمتواصلة التي تطال المدنيين من نساء وأطفال في غزّة. ويتمثّل ذلك من خلال التظاهرات الشعبية وبعض المواقف السياسية في مختلف أنحاء العالم الداعية الى تحرير فلسطين.
علماً بأنّ “إسرائيل” التي تواصل عمليتها البريّة في غزّة، لا تزال مصرّة على الإفراج عن الرهائن “الإسرائيليين” من دون أي شروط مسبقة أو إطلاقها للأسرى الفلسطينيين في “السجون الإسرائيلية”، والذين يبلغ عددهم نحو 6000 أسير. وتُطالب حماس بتبييض السجون مقابل إطلاق الرهائن ووقف النار في غزّة. وتعتقد “إسرائيل” أنّه بإمكانها السيطرة الشاملة على القطاع أمنياً، إذا واصلت العملية البريّة لأشهر عدّة بعد. وقد تنجح بالتالي في فكّ أسر الرهائن “الإسرائيليين” والأجانب من القطاع، الذي تدخله قوّاتها برّاً بهدف إكتشاف أماكن فُوَه الأنفاق القائمة تحت الأرض.
وأشارت المصادر نفسها الى أنّ الإدارة الأميركية نفسها تُمارَس عليها بعض الضغوطات الداخلية لوقف الحرب على غزّة، كونها هي المسؤولة الأولى عنها، على ما أعلن السيّد نصرالله في خطابه الأخير. وبمجرّد طلبها من “إسرائيل” وقفها، لا بدّ وأن تتوقّف حتماً، لكنها بحاجة الى ضمانات يودّ هوكشتاين حملها اليها.
وكشفت المصادر هنا، عن مذكرة صادرة عن دوائر الخارجية الأميركية حذّرت فيها ممّا أسمته “مخاطر سياسة الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل”، (لا سيما مع قتلها للمدنيين في غزّة ما أقام قيامة المنظمات والجمعيات الدولية المنادية بحقوق الإنسان، وعلى رأسها الأمم المتحدة). وتحتوي على طلبين رئيسيين هما:
– الأول: أن تدعم الولايات المتحدة وقف إطلاق النار في غزّة وفي جنوب لبنان لعدم امتداد الحرب اليه ومنه الى دول المنطقة وأوروبا.
– الثاني: أن تُوازن الولايات المتحدة بين رسائلها العامة والخاصّة تجاه “إسرائيل”، بما في ذلك توجيه إنتقادات للتكتيكات العسكرية “الإسرائيلية”، ومعاملة الفلسطينيين التي تُفضّل الولايات المتحدة عموماً الإحتفاظ بها سرّاً.
هذا وتأتي زيارة هوكشتاين الخاطفة والعاجلة الى لبنان قبل أيّام من انعقاد القمّة العربية على مستوى الرؤساء والملوك والأمراء العرب يوم السبت المقبل في 11 تشرين الثاني في السعودية، والتي يُشارك فيها لبنان. ويؤمل منها أن تتخذ الدول العربية خلالها موقفاً موحّداً يؤدّي الى وقف الحرب على غزّة، وألّا يقتصر الأمر على هدنة لمدة خمسة أيّام لتمرير المساعدات الإنسانية فقط، في الوقت الذي لا يحتاج فيه الذين يصابون ويموتون في غزّة الى هذه المساعدات، إنّما الى وقف شامل لإطلاق النار والى السلام الدائم.