حتى قبل أن تفتح مراكز الإقتراع أبوابها، هنالك رؤساء «سقطوا» سياسياً، وباتوا في موقع ضعيف، كما هي الحال مع الرئيسين الأميركي والفرنسي. وهنالك من يقف عند أبواب السقوط حتى ولو لم يتمّ بعد تحديد موعد للإنتخابات كما هو الوضع مع رئيس الحكومة الإسرائيلية. وهنالك أيضاً من بات يلمس بوضوح تلك «الهوة» التي تفصله عن الشارع، كما أظهرت المشاركة الضعيفة في الإنتخابات الرئاسية الإيرانية.
في المقابل، لا بدّ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الإبتسام سراً والتعويل على المستقبل. فطريق دونالد ترامب الى البيت الأبيض بات مفتوحاً ما لم يطرأ جديد، وأحزاب أقصى اليمين والذي يتماهى مع موسكو، في حالة نهوض في معظم أنحاء أوروبا، وهو بات القوة الأكبر في فرنسا أياً تكن ما ستتمخض عنه نتائج الدورة الإنتخابية الثانية. وحالة الضعف التي تعمّ الشرق الأوسط بسبب الحروب ونتائجها المدمّرة باتت تسمح بإعطاء موسكو مقعداً مريحاً إذا عرفت كيف تخطو بحنكة ودراية.
ففي واشنطن وقبل خمسة أشهر فقط من موعد الإنتخابات الرئاسية، حصل تحول إنتخابي خطير من زاوية الحزب الديموقراطي. فانتقل المسار الإنتخابي من تنافس بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري الى نزاع حاد داخل الحزب الديموقراطي، وسط دعوات «ديموقراطية» لإعلان جو بايدن انسحابه من السباق الرئاسي، ما يؤدي الى إضعاف فرص الحزب فيما لو تمسّك بايدن بقرار الإستمرار في ترشحه. وحتى قبل ظهور هذه المشكلة الى العلن، كان الحزب الديموقراطي يعيش نزاعاً حاداً بين أجنحته لأسباب عدة من أبرزها الموقف من الحرب الدائرة في غزة. ووضعت علامات استفهام عدة حول الجهة التي حركت الإحتجاجات الجامعية، مع التذكير بأنّ نسبة عالية من أساتذة الجامعات ينتمون في العادة الى الحزب الديموقراطي وتحديداً الى جناح أقصى اليسار.
ومن هنا اقتناع عدد من المانحين ومسؤولي الحزب الديموقراطي بضرورة استبدال بايدن بمرشح آخر، على رغم من المخاطرة بسبب ضيق الوقت. ويؤيد الرئيس السابق باراك أوباما هذا الخيار ولو من دون إعلان موقفه على الملأ.
وفي فرنسا، حصل استنفار سريع جمع كل الأضداد للحدّ من الصعود الصاروخي لليمين المتطرّف ومنعه من حيازة الغالبية النيابية المطلقة. فتمّ تفاهم سريع على توحيد المرشحين وسحب آخرين. وكلما ازدادت أعداد المنسحبين تضاءلت حظوظ اليمين المتطرّف في بلوغ «العتبة» السحرية والتي تبلغ 289 مقعداً، ما سيجنّب ماكرون إلزامية تكليفه بارديلا مهمّة تشكيل الحكومة. وحتى الآن تمّ إقناع أكثر من 210 مرشحين بالانسحاب، 127 من اليسار و77 من إئتلاف الوسط. وحتى لو نجح توافق الأضداد في تحقيق غايته، إلّا أنّ ذلك لا يعني أبداً استعادة التوازن السياسي لا بل على العكس فهو على الأرجح سيؤسس لفوضى دستورية وسياسية وحالة غريبة لم تشهدها فرنسا من قبل.
والمشاركة الضعيفة في الإنتخابات الإيرانية كشفت في وضوح «الغربة» التي يعيشها قسم كبير من الشارع الإيراني وخصوصاً شريحة الشباب. وإذا كان يمكن تبرير الإحتجاجات التي حصلت بأنّها وليدة مؤامرة خارجية وبأنّها لا تمثل غالبية الشارع الإيراني، إلّا أنّ المشاركة الانتخابية الأضعف منذ قيام الثورة، وعلى رغم من وجود تنافس بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، أظهر أنّ هنالك مشكلة جدّية لا يمكن القفز فوقها بسهولة، خصوصاً في المدن الكبرى وعلى مستوى شريحة الشباب. بالتأكيد فإنّ الأزمة الإقتصادية التي سبّبتها العقوبات المفروضة على إيران شكّلت أحد الدوافع الرئيسية لحال الإستنكاف، وهو ما أظهرته برامج المرشحين، إلاّ أنّ ثمة دوافع أخرى لها علاقة بالواقع الإجتماعي والتي تحمل عنوان «المرأة» والتي شكّلت شرارة الإحتجاجات الأخيرة.
ولا شك في أنّ النظام الحاكم في إيران سيجري بعد الانتخابات مراجعة كاملة، قوامها الواقعين الإقتصادي والاجتماعي، لحماية استمرارية الثورة مستقبلاً، خصوصاً في ظل استحقاقات أساسية مستقبلاً. ومع الإشارة هنا الى أنّ المعروف عن المجتمع الإيراني بأنّه يميل تاريخياً الى الثقافة الغربية، وأنّ الأصولية الدينية التي كانت قائمة بالقرب منه في دول الخليج وتحديداً السعودية، تبدّلت منذ الثورة الداخلية التي أحدثها ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان.
وفي إسرائيل، يكاد الحصار يخنق بنيامين نتنياهو. فلا هو قادر على الإستمرار في أطول حرب عرفتها إسرائيل، ولا هو حقق أياً من أهدافها المعلنة على رغم من أنّه سيعلن انتصاره من أمام مجلسي النواب والشيوخ في واشنطن. وهو منبوذ دولياً ومُلاحق قضائياً ووضعه الشعبي لا يزال صعباً ودائرة خصومه في الداخل توسعت كثيراً لينضمّ إليها ضباط الجيش الكبار. ما يعني أنّه لم يعد قادراً على التقدّم ولا إمكانية له للتراجع، والوقوف في مكانه سيعني سقوط «دراجته» وتحطّمها. وإذا صحت الأخبار حول إمكانية حصول لقاء بينه وبين بايدن عند زيارته واشنطن أواخر الشهر الجاري، فإنّ اللقاء سيكون بين رجلين تنازعا وتضاربا بالسكاكين حتى مزّق كل منهما جسد الآخر ليفقدا القدرة على الوقوف والنجاة.
وعلى رغم من هذه الصورة المأسوية عموماً، إلا أنّ هنالك من يعتقد أنّ التعب العارم لدى الجميع قد ينتج حلاً، لطالما أنّ الجميع رفضوه وهم في أوج قوتهم. فالإدارة الأميركية تمسك بالمفتاح الإقتصادي الذي تحتاجه طهران بشدة، فلماذا لا تتمّ استعادة الملف النووي بعد أن وُضع على الرف طويلاً؟ ولماذا لا يتمّ إنجاز التفاهمات السريعة حول ساحات النفوذ طالما أنّ الدب الروسي باشر في تقدّمه لالتقاط الأوراق المبعثرة في الساحات المتشابكة؟
وثمة أحداث ومواقف لافتة ظهرت بنحو متزامن تقريباً. أولها جاء من إسرائيل مع كلام لنتنياهو عن قرب الإعلان عن إنهاء العمليات الكبرى والإنتقال الى المرحلة الثالثة. وثانيها من إيران نفسها وعلى لسان قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الايراني حين اعتبر أنّ «أيدينا مقيّدة للقيام بهجوم على إسرائيل». وهذا كلام يناقض كل المواقف السابقة. وثالثها ما أعلنه البنتاغون عن سحب حاملة طائراته «أيزنهاور» من مياه الخليج العربي مع كل القطع البحرية المرافقة. وتمّ ذلك وسط تسريبات للبنتاغون عن أنّ خطوته هذه جاءت لتركيز قدراتها العسكرية في منطقة المحيط الهادئ، حيث المهمّة الأساسية لاحتواء الصين. وأضافت التسريبات بأنه يتمّ تعديل المهمّات العسكرية للقوات الأميركية في بحر الخليج والإنتقال من مهاجمة قواعد الحوثيين ومراكزهم والعمل على إضعافهم عسكرياً الى الإكتفاء بالدفاع عن السفن من أي هجمات، من خلال الطلعات الجوية. وفي الكواليس انتقادات أميركية لانكفاء دول الخليج عن المشاركة في العمليات الدائرة ضدّ الحوثيين والإتكال فقط على القوتين الأميركية والبريطانية. أما الأجواء السعودية فعادت لتظهر انتقاداتها لإدارة بايدن التي «لا ثقة لدينا بها، وأنّ من الأفضل الإنتظار لبضعة أشهر لرحيل هذه الإدارة ومن ثم عقد الاتفاقات مع الإدارة التي ستخلفها».
ووسط هذه الأجواء زار الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين باريس للبحث في ملف جنوب لبنان. وهوكشتاين القلق كما كثير من طاقم بايدن من عودة ترامب الذي يرعد مهدّداً بالانتقام، ما كان ليزور باريس للإستطلاع ولا للإستجمام بل لأنّ هنالك مستجدات فرضت ذلك. وتأتي أيضاً الزيارة المفاجئة لمسؤول المخابرات الألمانية الى نائب الأمين العام لحزب الله في التوقيت نفسه. وبات معلوماً أنّ السؤال الأساس الذي حملته مهمّة الموفد الألماني هو حول موقف «حزب الله» في الجنوب في حال أعلنت إسرائيل عن وقف العمليات العسكرية الواسعة من دون أن تعلن «حماس» وقف النار. وبقي جواب الشيخ نعيم قاسم غامضاً لجهة قوله أنّه عند الوصول الى هذا الوضع سيعلن «حزب الله» موقفه. في الواقع، المسألة ليس لها علاقة بوقف العمليات العسكرية الواسعة بل أيضاً بالوضع السياسي والحكم في غزة للمرحلة المقبلة. أضف الى ذلك أنّ «حزب الله» الذي بدأ يُدخل تعديلات على سياسته للمرحلة المقبلة، والتي تتركّز على الساحة السنّية في لبنان والمحيط، سيمسك بقوة أكبر بيد حركة «حماس» التي ساهمت بقوة في فتح قنوات التواصل بين «حزب الله» و»الجماعة الإسلامية»، والتي أنتجت زيارة أمينها العام الى الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
صحيح أنّ هذه الزيارة لا تزال في إطار ترتيب الأوضاع ولا يزال من المبكر الحديث عن تحالف سياسي كامل للمراحل المقبلة، لكنها تشكّل بداية متقّدمة لمشروع يجري بناؤه. ويدور همس في الكواليس حول العمل على إنضاج فكرة تقضي بدعوة من يمثل المرشد العام لـ»الإخوان المسلمين» الى طهران للقاء مرشد الثورة.
لكن هذا التقارب الجاري العمل في اتجاهه بين الطرف الشيعي و»الإخوان المسلمين» سيطرح علامات استفهام حول علاقة إيران بالنظام السوري وأيضاً بروسيا. أضف الى ذلك حساسية الأنظمة العربية والخليجية التي تراقب لبنان وتعرف بأنّ الساحة اللبنانية شكّلت تاريخياً ولا تزال نموذجاً مبكراً وبوصلة تحدّد الاتجاه الذي ستسلكه الأوضاع لاحقاً على الساحات العربية. وهذا ما كان يعتمده معظم الزعماء العرب من خلال متابعتهم للصحافة اللبنانية والحركة السياسية فيها، بدءاً من عبد الناصر وصدام حسين وياسر عرفات والملك حسين وزعماء الخليج الخ…..
وهذه المسألة تشكّل تقاطعاً جامعاً بين السعودية ودمشق وتزيد من التقارب الروسي ـ السوري، وهي أيضا تساعد في تذليل العقبات أمام التسوية التي تنشدها واشنطن القلقة من روسيا لمرحلة رسم الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة.
ولأنّ روسيا ستتولّى الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي، قرّر وزير خارجيتها التقدّم خطوة في اتجاه ملفات الشرق الأوسط والدعوة الى اجتماع في موسكو في 18 من الجاري سيشارك فيه وزير خارجية لبنان. وسيتمّ طرح ملفات ثلاثة: الأول، يتعلق بالحرب الدائرة في غزة ولبنان، وستدعو موسكو الى خفض التصعيد الحاصل والذهاب الى حلول تتوافق مع القرارات الدولية. والثاني، يتعلق بالحرب في أوكرانيا. والثالث، يطاول العقوبات المفروضة على دول عدة ومنها روسيا.
وبمعنى آخر، تعمل روسيا على التسلّل الى قلب ملفات الشرق الأوسط ولو من باب تقديم المساعدة لتطبيق القرار 1701.
وفي آخر استطلاع لمركز «بيو» والذي شمل 44 ألف شخص في 36 دولة تتوزع بين الأميركيتين وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، تبين أنّ 63% من البالغين تحت سن 35 عاماً بات لديهم رأي إيجابي تجاه روسيا، في مقابل 31% لمن هم تجاوزوا الـ50 عاماً.
لأجل كل ذلك تبدو التحدّيات أمام واشنطن كبيرة.