قبل ساعات قليلة من وصول الموفد الاميركي المكلّف عملية ترسيم الحدود البحرية عاموس هوكشتاين إلى بيروت، انقلبت الصورة جزئياً. ومردّ ذلك الى المفاعيل التي تركتها الرسالة اللبنانية الى الأمم المتحدة في شأن الخطوط البحرية. فتعميمها على كافة أعضاء مجلس الأمن كوثيقة من وثائق المجلس، أحدثت تعديلات أساسية على جدول أعماله. وعليه، هل تستعجل الخطوة تحقيق ما هو متوقع من مهمته. وكيف ولماذا؟
عندما التقى وزير الخارجية عبدالله بوحبيب والسفيرة الاميركية دوروثي شيا في الثاني من شباط الجاري، غداة عودته من لقاءات الكويت بثلاثة أيام ويوم واحد على عودته من تركيا، تحدثت شيا في عدد من الأمور التي تتصل بنتائج لقاءات الكويت، وسألت عن تقييمه لنتائجها من باب اهتمامها بمصير ما عُرف بالمبادرة الكويتية ـ الخليجية وأبعادها الدولية وما يمكن ان تنتهي اليه، ودخلت في كثير من التفاصيل، قبل أن تستعرض معه عدداً من القضايا الديبلوماسية، ولا سيما منها الترشيحات الاميركية واللبنانية في بعض اللجان والمؤسسات الأممية المنتظرة في وقت قريب، بغية تبادل الدعم بين الدولتين لمرشحيهما.
وقبل أن تنتهي شيا من القضايا التقليدية، جاءت على ذكر المهمّة التي يقوم بها الموفد الاميركي الى مفاوضات الناقورة غير المباشرة بين لبنان واسرائيل عاموس هوكشتاين في بيروت بعد تل أبيب بعد ايام، وأصرّت على انّ برنامجه سيؤدي به الى زيارته بيروت منتصف الاسبوع الجاري وتحديداً ما بين السابع والتاسع من شباط الجاري. ولما لفتها بوحبيب الى أهمية ان تحتسب انّ الاربعاء هو يوم عطلة رسمية في لبنان لمصادفته عيد مار مارون، طلبت استثناء لتحديد الموعد ولو كان يوم عطلة، فهوكشتاين محكوم ببرنامج عمل ولا بدّ من إنجازه.
وبعد البحث في مضمون الرسالة التي اعدّتها وزارة الخارجية الى الأمم المتحدة، وسلّمتها رئيسة البعثة اللبنانية أمل مدللي، واعتُبرت وثيقة رسمية تجمّد الإجراءات الاسرائيلية التي تنوي القيام بها بالتعاون مع شركة «هاليبرتون» من أجل التنقيب في «البلوك رقم 72» وفق التصنيف المعتمد من الجانب الاسرائيلي، والذي يمسّ «البلوك رقم 9» من الجانب اللبناني، لفتت شيا الى أهمية البتّ بالخطوات العملية التي ينوي الموفد الاميركي القيام بها. واعتبرت انّ المهمّة طالت، ومعها انتظار بلادها للتفاهم الذي يطلق آلية العمل في البلوكات النفطية في الجانبين، وخصوصاً في الجانب اللبناني الذي يمكن أن يبدأ باستخراج ثروته لإنعاش الاقتصاد اللبناني وتسهيل الحصول على المشتقات النفطية بطريقة مستدامة، توقف حاجة لبنان الى ما يستورده من الغاز والكهرباء من هنا وهنالك، عدا عن التكلفة الباهظة التي يتكبّدها قبل حصوله على ما يحتاجه منها من مياهه الاقليمية وثروته النفطية والغازية الخاصة به، على أمل أن تجري في أفضل الظروف.
عند هذه الرواية انتهت المناقشات مع الخارجية اللبنانية من دون تحديد موعد نهائي لزيارة هوكشتاين، لكن ما كشفته الأوساط العليمة لاحقاً، أبرزت الإصرار الاميركي على عدم تأجيل الزيارة. وهو ما دلّت إليه الإتصالات العاجلة التي أُجريت مع قصر بعبدا طلباً لموعد مع رئيس الجمهورية يوم الأربعاء، بمعزل عن اعتباره يوم عطلة، وهو ما فسّرته الجهات العليمة باستعجال أميركي للزيارة من دون تأخير ولو ليوم واحد، وحتى ولو أحرجت اللبنانيين بعقد لقاءات رسمية في يوم عطلة.
على هذه الخلفيات، لا بدّ للمراجع التي تواكب عملية الترسيم، من تسجيل سلسلة من الملاحظات لفهم أسباب الاستعجال الأميركي الذي يمكن ربطه بمضمون الرسالة التي سُلّمت الى الامم المتحدة ومفاعيلها السريعة، على الرغم من النقاش الذي ما زال دائراً في لبنان حول أهمية تعديل المرسوم 6433، الذي لا يبدو انّه في متناول اليد في هذا التوقيت بالذات، وخصوصاً بوجود مجلس وزراء كامل المواصفات الدستورية. ولكن للرسالة مفاعيل إيجابية مشابهة بالنسبة للداعين الى التعديل، وإن لم تنجز الأهداف كلها من اي خطوة من هذا النوع، فإنّها تفتح الطريق اليها، إن سُدّت السبل أمام الاخذ بمضمونها في الاعتبار من الجانبين الاميركي والاسرائيلي. وكل ذلك يجري بمعزل عن المواقف المتناقضة من عملية التعديل، والتي ما زالت تتحدث عن الفرز الحاد بين مواقف المسؤولين، بين مؤيّد ومتريث بوجود من يرفض هذه الخطوة.
وإن لم يكن هناك حاجة للمطّلعين على فرز المواقف، لا بدّ من التوقف أمام مفاعيل الرسالة في توقيتها وشكلها ومضمونها قبل نتائجها. ومنها:
– في التوقيت، لا بدّ من التوقف امام التزامن بين تاريخ تسجيل الرسالة لدى الأمم المتحدة في 2 شباط الحالي والاتصالات الجارية لترتيب زيارة هوكشتاين إلى بيروت بفارق ايام قليلة. ولذلك ستكون لها مفاعيلها المباشرة على اي طرح يمكن ان يتقدّم به عند وصوله الى العاصمة اللبنانية في الساعات المقبلة، لأنّها تفرض بنداً اضافياً على جدول أعماله. وإنّ ذلك لا يخفي إمكان ان تطيح الرسالة جدول اعمال البحث، بعدما فرضت معطيات جديدة لا يمكن لأحد تجاهلها، هذا إن لم تغب جوانب مما انتهت اليه زيارته الى اسرائيل، والقضايا التي أُثيرت مع المعنيين في وزارة الطاقة او اي مرجع آخر، وما يمكن أن يحمله من مخارج وحلول.
– اما في الشكل والمضمون، فقد توقف المراقبون أمام الخطوات التي رافقت تسليم الرسالة وفق الأصول المتبعة في الأمم المتحدة، وخصوصاً عند اعتبارها تعليقاً لمفاعيل الإجراءات الاسرائيلية للاستثمار في حقل كاريش (من ضمن البلوك 72 الاسرائيلي) بما يوازي مفاعيل الرسالتين الإسرائيليتين السابقتين، من المندوب الدائم لإسرائيل المؤرختين في 2 شباط 2017 و 21 كانون الأول 2017، واللتين ادّيتا الى تعطيل «دورة التراخيص اللبنانية السابقة». فقد تساوى البلدان بتعليق أنشطتهما في «أي منطقة باتت على لائحة المناطق المتنازع عليها». كما أكّدت الرسالة الجديدة مضمون الرسالتين اللبنانيتين السابقتين اللتين سبق للبنان أن ردّ فيهما على المزاعم الاسرائيلية الواردة فيهما، بموجب الرسالتين الرقم 574 /2017 تاريخ 20 آذار 2017 و154 /2018 تاريخ 26 كانون الثاني 2018» قبل إضافة الرسالة الجديدة التي أطبقت على كل جديد اسرائيلي في هذا الاتجاه.
وإلى من ادّعى أنّ الرسالة اللبنانية الجديدة تجاهلت الحديث عن الخط 29 وما يمكن أن يوفّره للبنان من حصّة أكبر من المنطقة الاقتصادية الخالصة له، لفتت المراجع المعنية الى انّ هذا التعليق ليس في محله. وعلى الرغم من فقدان الحديث المباشر عن الخط 29، فإنّ مضمون الرسالة لا يتحدث سوى عن الرسائل والخطوط التي تؤكّد انّ خط الـ 29 تمّ أحياؤه من دون تعديل المرسوم 6433، على الرغم من الملاحظات التي تعرّضت لها الرسالة في شكلها وبعض العبارات التي تضمنتها. فقد كان في الإمكان ان تكون اوضح بعبارات اكثر دقّة افتقدت اليها، لكن نتائجها لن تتأثر بهذه الشكليات.
وبناءً على ما تقدّم، لا بدّ من الإشارة الى أنّ ما جرى أنعش الآمال في إمكان ان يستعيد لبنان مساحة اكبر من حصّته المعترف بها اميركياً واسرائيلياً. فالحجة اللبنانية القوية لا تحرج اسرائيل فحسب، وقد تدفعها الى التواضع، انما تمكّن الوسيط الاميركي من ان يكون اقوى في الوصول الى نتائج عملية توفّر له النجاح في مهمته. ففي مثل هذه الحالات، فإنّ بعض الحقوق لا يمكن أن تضيع، فتفرض نفسها بنفسها بمعزل عن البحث عن وجود خاسر ورابح لبنانياً كان أم اسرائيلياً، فالأهم أن يربح الموفد الاميركي في إنجاز مهمته.