في كل مرة كان منسق الادارة الاميركية لأمن الطاقة آموس هوكشتاين يزور فيها لبنان يَعِد ان زيارته ستكون مختلفة عن سابقاتها. يتقدم بطرح ثم يغادر على أمل العودة لمتابعة البحث ويطول الابتعاد فيصبح الترسيم في خبر كان. المختلف هذه المرة ان هوكشتاين يأتي بناء على دعوة ملحة من الجانب اللبناني، ابلغه عبر اتصالات تولتها اكثر من جهة رسمية ان لبنان بصدد تقديم رد على الاقتراح الذي سبق وتقدم به ومفاده «الخط 23 مع قانا كاملاً». عرض ان يتم تسليمه الى السفيرة الاميركية دوروثي شيا لكن لبنان أصر على مجيئه.
بحذر يستقبل لبنان الوسيط الاميركي. اما لماذا الحذر فلأن المسؤولين في لبنان ومن واظبوا على استقبال الوسيط الاميركي ساورتهم الشكوك حول مهمته. أول المآخذ بحقه الوقت الزمني الفاصل بين زيارة واخرى. لا يكاد يتقدم بعرض حتى يغادر أشهراً طويلة ثم يعود مجدداً ليبدأ الحكاية من اولها. في آخر وساطته حمل عرضاً اسرائيلياً الى لبنان. طلبه لبنان نصاً رسمياً. وقع لبنان في الخطأ لان العرض الرسمي المكتوب يتطلب رداً بالمثل. لكن لبنان لا ينوي تقديم رد مكتوب كي لا يتحول الى وثيقة ملزمة. ما العمل اذاً؟
من وجهة نظر المسؤولين عن الملف انها المرة الاولى التي يريد فيها لبنان التوصل الى اتفاق بشأن حدوده، وتبدي اسرائيل جدية وتولي الامم المتحدة اهتماماً بالغاً لتوصل لبنان واسرائيل، ولو الى تفاهم اولي، لكن تحقيق مثل هذا الامر يتطلب زيارات مكوكية للوسيط الاميركي لا ان يكتفي بزيارة واحدة ثم يعود ادراجه. وهو الكلام الذي تبلغته السفيرة الاميركية في لبنان ومفاده ان على الوسيط الاميركي ان يظهر جدية ويبذل جهوداً استثنائية للخروج بنتائج مرجوة.
تحدد للوسيط الاميركي مواعيد للقاء الرؤساء الثلاثة وعقد اجتماعات عمل مع المسؤولين عن الملف بحضور السفيرة الاميركية. الطرفان ينتظران الاجتماع لاستماع كل منهما الى الآخر. تقول المعلومات ان هوكشتاين عائد لطرح الصيغة القديمة بينما يستعد لبنان لتقديم رده على ما تسلمه. سقف التوقعات العودة الى طاولة التفاوض المشترك في الناقورة لتكون تلك هي الخطوة التي تحد من تداعيات التطورات التي طرأت على الملف، وتمثلت بوصول الباخرة اليونانية ENERGEAN POWER إلى المياه الاقليمية المتنازع عليها ما بين لبنان واسرائيل والتي رست في حقل كاريش، والتي استتبعت بتهديد الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله باستهدافها في حال اكملت عملية التنقيب من جهة واحدة. وان كان «حزب الله» اعلن وقوفه خلف الدولة في اي قرار تتخذه في عملية ترسيم الحدود دون ان يرى نفسه ملزماً بالدخول في الجدل حول خطي الترسيم 23 و29.
تعيين «حزب الله» السيد نواف الموسوي مسؤولاً عن الملف لن يعني حكماً دخوله مباشرة على خط الترسيم بقدر ما هو حضور معنوي معلن، بعد ان كانت متابعته تتم من خلال رئيس الجمهورية ميشال عون. عملياً يحضّر «حزب االله» نفسه للملف في مرحلة ما بعد ميشال عون وتشكيل الحكومة الجديدة، وهو يدرك ان الخروج بموقف جازم وحازم حول ترسيم الحدود غير ممكن في ظل الظروف الراهنة، حيث يمنع على لبنان الشروع في استخراج ثروته قبل اي اتفاق مع اسرائيل على ترسيم الحدود البحرية والشركات التي دعاها لبنان، للتقدم بعروض للتنقيب تخلفت عن المجيء وهو ما دفعه للتمديد لشركة توتال مؤخراً والتي سبق وتوقفت عن اعمال الحفر قبل عامين بحجة ظروف «كورونا».
على هامش زيارة هوكشتاين ستتابع اسرائيل عملية التنقيب وهي التي اعلنت ان عملها يتم خارج الاراضي المختلف عليها مع لبنان. التنقيب الاسرائيلي ما كان ليتم لولا ضمانات اميركية وإصرار على احراج الموقف اللبناني المتلهي بالقشور وبخلافات لا جدوى منها على حساب الخروج بموقف موحد. وحده رئيس مجلس النواب نبيه بري يتفهم حساسية الوضع، وهو آل على نفسه مع تعدد الطباخين في الملف النأي بنفسه عن اي مشاركة مباشرة بالحوار، فابتعد عن اجتماع بعبدا وعن اي لقاءات ستقام على شرف الوسيط الاميركي كي لا يكون شريكاً في طبخة بحص في المستقطع من الوقت.
يدرك «حزب الله» قبل غيره تعقيدات ملف الترسيم وارتباطه ليس محصوراً بين لبنان واسرائيل حصراً وله امتداد من قبرص الى دول عدة، وهو بدأ تكوين ملفه الخاص كي لا يكون قراره مبنياً على آراء اخرى بعدما بات الخلاف واضحاً بين بعبدا وقيادة الجيش وعين التينة والسراي، حيث لكل قراءته ووجهة نظره وهنا الثغرة التي يستفيد منها الخارج وتستقوي بها اسرائيل. هو بازار مفتوح مستقبله لا يتوقف على موقف لبنان وحده وتتداخل فيه عوامل اقليمية ودولية وسياسية محلية تدخل في عمق الاستحقاق الرئاسي، وسط وجود اكثر من جهة سياسية لا تريد تسليفه لميشال عون او رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. ملف الترسيم عينه صار سبباً لانشقاق داخل مؤسسات مهمة وبسببه تتطاير التحذيرات في الفضاء الديبلوماسي. المحرج الاول في القضية هو «حزب الله» فأي موقف سيتخذه وحسابات اسرائيل ان نفطها سيكون جاهزاً في ايلول؟