تقدّمت زيارة الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين لبيروت الى الواجهة، في وقت كان اللبنانيون ينتظرون أي موفد اميركي. فقد استثنى وزير الخارجية انتوني بلينكن بيروت من جولاته المكوكية في المنطقة. كذلك انتظر اللبنانيون طويلاً زيارة نائبته لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، قبل ان يهبط هوكشتاين في قلب بيروت في عملية «إنزال» امتدت لسبع ساعات، نقل خلالها رسالة رئاسية اميركية واضحة. وهذه هي أهم عناوينها.
بعد ساعات على عملية «طوفان الأقصى» التي انطلقت بعد تأدية فرائض «صلاة الفجر» من صباح السبت في 7 تشرين الأول الماضي، سبقت الادارة الاميركية مختلف الدول والحكومات والإدارات الحليفة للدولة العبرية في الحضور على أعلى المستويات الى العاصمة الإسرائيلية، بهدف الإطلاع على ما جرى ورصد ما ادّى الى انقلاب الصورة في غلاف غزة. فالساعات الخمس الأولى من «العملية – الصاعقة» كانت كافية لنشر مجموعة من الأفلام «الهوليوودية» التي تحدثت عن اجتياح فلسطيني غير مسبوق لأراضٍ فلسطينية محتلة، توزعت فيها الكيبوتزات والمستوطنات اليهودية والى جانبها مجموعة من الثكن والمراكز العسكرية والمخابراتية التي بدت خالية من اي مقاومة.
وفي مقابل الصورة المتقدّمة العالقة في أذهان الرأي العام عن تركيبة وقدرات الجيش الاسرائيلي واسلحته المتطورة، فقد أظهرت الأفلام القصيرة التي انتشرت كالنار في الهشيم – وسط اعتقاد البعض للوهلة الاولى بأنّها غير واقعية – مجموعة الأسلحة التقليدية التي استخدمها الفلسطينيون من تلك الفردية والسيارات المدنية والدراجات النارية مترافقة مع تحليق وحدات المظليين في سماء المنطقة مستخدمين الطائرات الشراعية البدائية المزودة اسلحة رشاشة من صنع يدوي، في مشهد أوحى بوجود استعراض لمجموعة من الهواة في «يوم الغفران» وصولاً الى أعماق المنطقة المحتلة، في مسرح عمليات امتد بعمق 20 كيلومتراً بعيداً من المعابر المنتشرة على طول السياج الذي يطوّق قطاع غزة.
وعلى وقع الصدمة التي تسبّبت بها هذه العملية، وقبل ان تعلن القيادة الاسرائيلية عمليتها المضادة «الأسوار الحديدية»، كانت المواقف الاميركية التي استبقت تلك الغربية الأوروبية منها وخلافها، قد توالت دعماً لاسرائيل وإدانة ما حصل، بالتزامن مع إعلان «كتائب شهداء الاقصى» في حركة «حماس» عن تبنّيها للعملية، قبل ان تتضح حصيلتها. كذلك توالت القرارات بالهبات الاميركية بمليارات الدولارات قبل ان تطأ أقدام بلينكن بصفته اليهودية قبل الاميركية أرض تل ابيب، تزامناً مع فتح الجسور الجوية بين واشنطن ولندن وبرلين في اتجاه اسرائيل، لتزويدها أحدث الصواريخ المتعددة الاختصاصات بما فيها البحرية والخاصة بتدمير الأنفاق.
وعلى وقع ما تركته عملية «طوفان الأقصى» من صدمة في اكثر من عاصمة غربية، تعدّدت التقارير التي تناولت فشل المؤسسات والأجهزة الاستخبارية الاسرائيلية وزميلاتها القوى العسكرية والأمنية وتلك الوحدات المكلّفة تطويق غزة وحماية الكيبوتزات المنشأة في غلافها ومراكز الشرطة المحلية والغرف المكلّفة المراقبة التقنية للجدار والبوابات الإلكترونية والمعابر، من دون ان تقدّم او تؤخّر من حجم الدعم الذي تقرّر أن تناله إسرائيل الى جانب تسخير الأجهزة الديبلوماسية الدولية لحمايتها والتسويق لما نالها من «مظلومية» الى درجة قيل فيها انّ ما حصل كان «الهولوكوست الثانية»، عدا عن تلك التي عدّت في شكلها وما انتهت إليه على أنّها تكرار لعملية 11 أيلول التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك.
ليس في ما سبق تأريخاً لأحداث الشهر الاول من عمليتي «طوفان الأقصى» و«الأسوار الحديدية»، انما للإشارة الى حجم الحرب الديبلوماسية التي قادتها واشنطن في مرحلة تقدّمت على نظيراتها البريطانية والفرنسية والألمانية والأوسترالية وفي مجلس الأمن الدولي. وهي حملة قادت رئيسها جو بايدن الى تل ابيب للإعلان عن برامج الدعم اللامحدود مرفقة بالنصح بالتركيز على الوضع في قطاع غزة وترك معالجة بقية المحاور المرشحة للاشتعال على مستوى منطقة الشرق الاوسط وربما أبعد منها على عاتق الادارة الاميركية التي أعلنت على الفور عن تعزيز قواتها المحدودة المتمركزة في البحر المتوسط بحاملتي طائرات ومجموعة من الطرّادات والمدمّرات، قبل إدخال احدى غواصاتها النووية إليه وتعزيز وجودها الرمزي في البحر الأحمر على الحدود اليمينة وفي قواعدها من عمق الخليج في الإمارات العربية وقطر امتداداً الى العراق وسوريا، حيث المناوشات بينها ومحيطها.
على هذه الخلفيات دخلت الحدود الجنوبية اللبنانية مدارالنزاع على أنّها المسرح المحتمل لأي توسع للأعمال الحربية، بعدما تلاحقت العمليات العسكرية بنحو محدود، ليعبّر «حزب الله» من خلال قواعد الاشتباك المعقودة منذ العام 2006 حتى اليوم عن انّه الى جانب المقاومة الفلسطينية في خوض المواجهة في قطاع غزة، على الرغم من عدم تكافؤ القدرات العسكرية مع الدولة العبرية. فتحوّلت الأنظار الى اهمية إبعاد الساحة الجنوبية عن مسرح العمليات التدميرية لئلا يلحق بلبنان ما لا يمكن تحمّله. فهو البلد المصاب بكل أنواع الأزمات المالية والاقتصادية من جهة، ولحصر المواجهة مع حركة «حماس» والتفرّغ لتدمير مقدّراتها العسكرية وربما كانت النية بإزالتها من الوجود وتهجير سكان القطاع وتفريغه، في اكبرعملية ترانسفير لنقل اكثر من مليوني فلسطيني الى خارج ارضهم، لطالما حلمت اسرائيل بتنفيذها، وقد جاءت الساعة في اعتقادها لتحقيق ذلك.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات، رافقت العيون الديبلوماسية حراك المسؤولين الأميركيين تجاه لبنان، وهم الذين اكتفوا حتى الأمس بتوزيع النصائح على اللبنانيين مرفقة بتحرّكات سفيرتهم في بيروت دوروثي شيا لنقل الرسائل التحذيرية من انخراط «حزب الله» في الحرب. وكأنّ ما يجري في الجنوب واستشهاد اكثر من 55 عنصراً من «حزب الله» ما زال مقبولاً ولا يشكّل خطراً كبيراً على أمن المنطقة. الى ان تورطت اسرائيل بعملية ادّت الى استشهاد جدّة وحفيداتها الثلاث على طريق عيناثا، بعد ايام على اغتيال إعلامي في الجنوب، فاستشعر الاميركيون خطر الانزلاق الى حرب واسعة إن توسعت قواعد الاشتباك لتشمل المدنيين على جانبي الحدود.
وبعدما اكتفى بلينكن بإجراء اتصال هاتفي يتيم بالرئيس نجيب ميقاتي، فيما كان يجول على عواصم المنطقة، هبط هوكشتاين في بيروت أول من أمس موفداً من الرئيس جو بايدن لنقل رسائل مختصرة وعاجلة مفادها إدانة ما حصل بالنسبة الى مقتل المدنيين، والتحذير على طريقة «من الفم الى الأذن مباشرة» من احتمال ارتكاب أي خطأ يمكن ان يفجّر الوضع بحجة انّ لبنان لا يتحمّل نتائجها غير المسبوقة. فإن وقعت سيشهد اللبنانيون على ما لم يعرفوه في حياتهم، مع تأكيد انّ الضغوط الاميركية على اسرائيل ليست جديدة وقد فعلت فعلها منذ بداية الحرب. فلولا التدخّل لدى تل ابيب بلغة صارمة ومنعها من القيام بأي عملية في لبنان لكانت مناطق لبنانية مسرحاً للعمليات العسكرية الشبيهة بما يجري في غزة منذ الثامن من تشرين الاول الماضي، اي اليوم التالي لعملية غلاف غزة، ولمجرد ان هاجم «حزب الله» مواقع اسرائيلية في القطاع الشرقي. فاسرائيل لا تميّز بين القطاعات الجنوبية الثلاثة وهي تخضع للإجراءات نفسها.
وتجدر الاشارة إلى انّ ضمّ هوكشتاين إلى الفريق الأميركي الخاص بحرب غزة كان «ضربة معلّم». فهو يفهم العقلين اللبناني والاسرائيلي، ما يؤهله للانطلاق بمبادرة للإفراج عن الأسرى. فله لدى كل طرف معني صديق يمكن ان يتفاهم معه، وعليه كانت زيارته لبيروت وكأنّها «عملية إنزال» سريعة امتدت لسبع ساعات، ليقول بعض الكلمات ويمشي، لن تُحتسب قياساً على ما سبقها من اتصالات وما ستليها. فالمهمّة عاجلة ويجب ان تنتهي بأسرع وقت ممكن… فلننتظر.