Site icon IMLebanon

عمرو موسى يتسلّق السلّم: اللباب والقشور

 

يروي عمرو موسى في مذكّراته المنشورة حديثاً سيرةَ رجلٍ موهوب تقدّم في السلّم الوظيفي في الدولة المصريّة إلى أن تبوّأ منصب وزير الخارجيّة المصري (الجزء الثاني من الكتاب سيروي سيرتَه عندما أصبح أميناً عاماً للجامعة العربيّة). وقد احتلّ موسى موقع الصدارة في الحياة السياسيّة العربيّة خصوصاً وأن مرحلة صعوده تزامنت مع انطلاق الفضائيّات العربيّة، وهو ضيفٌ ماهرٌ ومحدّثٌ لبقٌ في البرامج الحواريّة وفي المؤتمرات الصحافيّة. وسيرة موسى تختصر التحوّلات في السياسة الخارجيّة لدولة مصر على امتداد مراحل ثلاث من حكّامها، وقد عاصر تلك المراحل وإن في مواقع مختلفة.

 

وموسى متكلِّمٌ بارع وراوٍ شيّق يعرف كيف يشدّ القارئ (كما المُستمع) إلى روايته. ولقد أعان الناشرُ، «دار الشروق»، المؤلّفَ في تزويد الكتاب بحواش تفسيريّة عن الأحداث والشخصيّات والوثائق التي يرد ذكرها في الكتاب. وموسى يكتب سيرته للتاريخ، بعد أن فقد الأمل في إمكانيّة صعوده إلى موقع رئاسة الجمهوريّة المصريّة. وهذه السيرة مكتوبة للقارئ العربي لا للمصري فقط ولهذا هي توازن بين الوطنيّة المصريّة وبين الهويّة العربيّة، وتوازن أيضاً بين الالتزام بثوابت الساداتيّة في السياسة الخارجيّة وبين الكلام العاطفي المجرّد عن فلسطين.

لكن السيرة تكشف عن شخصيّة موسى أكثر ممّا أراد الكاتب أن يكشف. زيّنَ موسى سيرته بشعارات كبيرة لكنه أفصح عن مضمون فكري ضحل وعن هوس بقشور الحياة لا بلبابِها. تقرأ مئاتٍ من الصفحات من قلمه وتصل إلى نتيجة سلّمَها هو لك: إنه يفتقر إلى فكرة أو عقيدة أو أيديولوجيّة أو حتى سياسة. هذه عنده ليست من هموم الدنيا. موسى يقف مع الحاكم، حتى يأتي خَلَفُه من بعده فيناصرُه، وهكذا دواليك. هو كان مع عبد الناصر، ثم مع السادات ثم مع مبارك، وهو الآن مع السيسي، إلى أن يخلف حاكمٌ السيسي فيعارض الأخير. والرجل كان طموحاً جداً منذ البداية وطموحاته طبقيّة معيشيّة أكثر مما هي سياسيّة من حيث رغبته في دخول الشأن العام.

جهد موسى كي يُضفي على سيرته طابعاً وطنيّاً وسياسيّاً فلم يقع إلا على كلامٍ عام وفضفاض. هو أكثرَ من الحديث عن القوة الناعمة لمصر فيقول إن درجة دور مصر يُقاس بـ«مقدار إسهام مجتمعنا في (القوّة الناعمة) من علوم وآداب» (انظر «كتابيْه»، موقع ٣٦٠، من مقدّمة الكتاب/ الاستشهاد سيكون بالنسخة الرقميّة للكتاب). وهو يعود لعامل «القوّة الناعمة» في مواقع أخرى في الكتاب (موقع ٢١٩٥ مثلاً) ليشكو مِن أثر هزيمة ١٩٦٧ عليها. لكن موسى ينسى أن صاحب فكرة «القوّة الناعمة»، أستاذ العلاقات الدوليّة في جامعة هارفرد، جوزيف ناي، لم يفهم القوّة الناعمة على طريقته، أي أنها عنصرٌ يقف بحد ذاته، من دون أن يكون مقروناً بعناصر قوّة أخرى مثل القوّة الصلبة (انظر كتاب جوزيف ناي، «القوّة الناعمة: أسلوب النجاح في العلاقات الدوليّة»). وناي يرى ضرورة الاستعانة بالقوّة الصلبة في مواقع وبضرورة الاستعانة بالقوة الناعمة في مواقع أخرى. لكن موسى لم يشرح كيف أن عناصر القوة الناعمة (وهي حسب ناي تعتمد على عامليْ الانجذاب والإغراء والشدّ) تطوّرت في عهدي السادات ومبارك عمّا كانت عليه في عهد عبد الناصر. هل أن الإنتاج الفنّي والأدبي في عصر السادات أو مبارك تفوّق على كم الإنتاج الهائل في عهد عبد الناصر؟ على العكس، إن ظاهرة الناصريّة هي في حد ذاتها تجربة فريدة في العالم العربي المعاصر للقوّة الناعمة، حيث أن التعاطف والتأييد الذي لقيه عبد الناصر في العالم العربي لم يكن بالقوّة والقهر أو حتى بالرشوة (على طريقة نشر النفوذ السعودي والإماراتي والقطري) بل على عامليْ الانبهار والانجذاب العفويّيْن. وحتى الأزهر لم يكن نفوذه في عهد محمود شلتوت (في حقبة نشر نموذج إسلامي تقدّمي اشتراكي ومنفتح اجتماعيّاً) على ما أصبح عليه في عهد السادات ومبارك حيث عمّت السخريّة من علماء الأزهر لما أصبحوا عليه من تحجّر وغلوّ وتبعيّة سياسيّة.

 

وقد نشأ موسى في وسط ميسور، وهو يريد من القارئ أن يعلم أن والده وجدّه كانا من الأعيان. والرجل لا ينفي انبهاره بالفترة الملكيّة التي تنعّم بخيرات جوْرها الطبقي إذ انه انتمى إلى الطبقة المحظيّة. لا، بل إن قسوته واستعلاءه الطبقي بلغ حدّ انه يطري على عيشة الفلاّح المصري في العهد الاقطاعي الملكي ودليله على ذلك أغنية عبد الوهاب «محلاها عيشة الفلاّح» (موقع ٥٨٦). وكانت ميول العائلة السياسيّة «وَفديّة»، وبقي موسى على ولائه الطبقي في حياته. وبعد حصوله على شهادة المحاماة من جامعة فؤاد الأوّل (جامعة القاهرة، في ما بعد) انجذب موسى إلى الاهتمام بالسياسة. لكن انجذابه لم يكن بدافع سياسي أو عقائدي بل بدافع الانخراط في نمط معيشة فاخر. هو يقول إنه ابتعد عن مهنة المحاماة لأنّ صديقه أغراه بـ«العمل المرموق» (والوجاهة قد تكون الهدف الأسمى عند موسى، بعد الرفاهة) عبر دعوته لحضور حفلات الديبلوماسيّين. هذه الحفلات هي التي اقنعت موسى بالتخلّي عن ممارسة القانون والانصراف للعمل الديبلوماسي.

وفي سن مبكّرة لم يفهم موسى العمل الديبلوماسي على أنه تمثيل لمصر في دول العالم في القارات الخمس. لا، التمثيل الديبلوماسي عنده ينحصر فقط في أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة (هو يعترف مثلاً في آخر الكتاب إنه أهمل أميركا اللاتينيّة). وعندما عُرضت عليه أوّل وظيفة خارج مصر في أثينا، احتجّ واعترضَ لأنه لم يرَ نفسه إلا في نيويورك أو في أوروبا الغربيّة (راجع موقع ١٦٠٨). (لسبب ما، لم يدخل اليونان في نطاق تعريفه الجغرافي لأوروبا الغربيّة).

وكان له أن عمِل أوّل ما عملَ في سويسرا. وهنا ترد قصّة شراء السفارة المصريّة في برن لـ«أشياء بسيطة» لنظام الحماية الغذائيّة لجمال عبد الناصر. وانتشار القصّة وتضخيمها في إعلام آل سعود كان لأهداف واضحة ضد رجل عاش ومات من دون ثروة، لكنه استطاع أن يذيق طغاة الخليج الأمرّين في حروبه الناعمة. والذي أراد موسى أن يتعلّمه في دول الغرب ليس النظم السياسيّة أو طريقة خدمة القضيّة الفلسطينيّة في الغرب. لا، كان جلّ اهتمامه يتركَّز على أمور البروتوكول والمظاهر والوجاهة والتعرّف إلى حياة الأثرياء. هو كان يجلس في أقصى المائدة ويقول لنفسه: «متى يا رب اجلس على رأس المائدة» – بالحرف. هذا ما شغل موسى في عصر كان العالم الغربي يشنّ حروباً وحشيّة ضد العرب وكان النفوذ الصهيوني سائداً في تلك الدول. تعلّم موسى في الغرب طريقة الاختلاط الاجتماعي بالنخب ومسائل الملبس و«كيفيّة إعداد قوائم الطعام».

المسائل القوميّة والوطنيّة لم تكن واردة في ذهنه. لكنه فجأة يذكر في سرديّته أنه بعد الهزيمة مباشرة قاطع اجتماعات «التنظيم الطليعي» (موقع ٢٠٩٤). لكن متى انضممتَ يا عمرو إلى «التنظيم الطليعي»؟ كيف فاتك أن تخبرَنا عن ظروف انضمامك إلى هذا التنظيم السياسي النخبوي الذي كانت شروط الانضمام إليه غير متوفّرة للجمهور؟ هو قال (بتحفّظ شديد) إنه أحب جمال عبد الناصر حتى هزيمة ١٩٦٧، لكن لم يشرح لنا طبيعة تعاطفه تلك. والرجل الذي كان ناصريّاً أصبح شكّاكاً فقط بعد الهزيمة وأفتى (على طريقة أعداء الناصريّة) بأن تظاهرات «لا تتنحَّ» «كان فيها ترتيب ما» (موقع ٢١٦٢)، مع أنني شهدتها تخرج من المنازل في حي المزرعة في بيروت بعفويّة في تلك الليلة، وأنا في سن السابعة. هل كان التنظيم الطليعي وراء ذلك، ولو كان فما هو الدليل، وهو كان عضواً فيه؟ وفجأة بعد الهزيمة يكتشف موسى أن الصناعة في العهد الناصري لم تكن جيّدة (موقع ٢٢٢٧). لكن هل أن قرار القضاء على الصناعة الوطنيّة والقطاع الخاص واستبداله باستيراد كل شيء هو البديل النافع لمصر؟

ثم اكتشف عمرو موسى الديموقراطيّة عشيّة الهزيمة في عام ١٩٦٧ (موقع ٢٢٢٧). لكن هذا الاكتشاف لا يتماشى مع المسار المهني والسياسي لموسى الذي تفّرغ لخدمة الطاغية السادات ثم مبارك من بعده. الذي قرّر أن عبد الناصر لا يماشي طموحاته الديموقراطيّة وجد ضالته في حكم السادات ومبارك. لم يعترض موسى، حسب روايته، مرّة واحدة على ممارسات الحكم الوحشيّة والقمعيّة، لا بل هو أطنب في مديح مدير المخابرات، عمر سليمان، ونوّه بالعلاقة الجيّدة التي ربطته به.

وانبهار موسى بالسلطة والنفوذ وبمقرّ نيويورك للأمم المتحدة يطغى على أي هم أو اهتمام سياسي. هو زها أنه رأى الديبلوماسي الأميركي، رالف بونش، لكنه لم يذكر تعصّبه ضد العرب وخدماته الجلّى للاحتلال الإسرائيلي. المهم أن «بونش» شخصيّة هامّة، وأن موسى رآه و«راقبه» بأم العيْن (موقع ٢٥١٥ وموقع ٢٥٣٨). رؤية هذا الصهيوني الصفيق كان عند موسى «قمّة المتعة»، حسب وصفه. وموسى يريد من القارئ أن يقتنع أن مواقفه السياسيّة التي تغيّرت لتوافق كل حاكم تولّى السلطة في مصر، أتت عن قناعة وليس عن انتهازيّة وظيفيّة. هو يقول إنه توصّل إلى قناعة أن لا خيار أمام مصر إلا «التفاوض المباشر مع تل أبيب» (موقع ٣٥٦٣). متى توصّل موسى إلى هذه القناعة؟ في الوقت نفسه الذي توصّل السادات فيه إلى تلك القناعة. هي صدفة وعليك التصديق. لكن يمكن أن تصدّق أنه حتى في مواقعه المختلفة في العمل في وزارة الخارجيّة كان يعدّ نفسَه لمنصب وزير الخارجيّة (موقع ٣٦٩٩). حتى زواجه، كان بناء على تقييم لوضعه الوظيفي، واختيار الزوجة كان من قبل مرؤوسيه في الوزارة.

ويستفيض موسى في الحديث عن الجبهة العربيّة العريضة التي تشكّلت ضد مبادرة السادات، وكانت معروفة باسم «جبهة الصمود والتصدّي». لكن موسى لسبب غريب، يخلط بينها وبين «جبهة الرفض» الفلسطينيّة والتي تشكّلت من قوى فلسطينيّة في عام ١٩٧٤ من أجل مواجهة ومقاومة الحلول الاستسلاميّة التي كان حركة «فتح» تحضّر الشعب الفلسطيني للقبول بها (وقد حُلَّت «جبهة الرفض» تلك في عام ١٩٧٧). لكن متابعة وضع المقاومة الفلسطينيّة ليست من اختصاصه. هو منصرف لما هو أهم عنده: أي مقابلة أصحاب الثروات والجاه حول العالم. وفي حديثه عن بطرس غالي، هو لا يلتفت إلى مؤلّفاته (وهي انتهازيّة في تنقّلها من الفكر الاشتراكي في عهد عبد الناصر إلى التطبيع واليمينيّة في عهد السادات)، بل إلى علاقاته بـ«الطبقة الراقية العالميّة وصالوناتها» (موقع ٥٠٩١). هذا هو المهم. هو يتحدّث عن تعرّفه إلى أخيه غير الشقيق، بيير موسى، في فرنسا، لكن الروابط العاطفيّة هي أقلّ أهميّة عنده من انخراط بيير في علاقات الطبقة الثريّة. ولقد وجد موسى ضالته بعد سنوات في مؤتمرات «دافوس»: ومنتديات الأثرياء وأصحاب الجاه هي عنده تعلو على هدف تحرير فلسطين أو تضامن العرب أو تحقيق الأمن المصري (ألهذا أنشأ «المنتدى المتوسّطي»؟).

ويكشف الكتاب مدى النفاق في العلاقات العربيّة. كان النظام المصري يرتبط بتحالف مع العراق والأردن واليمن (في «مجلس التعاون العربي») فيما كان مبارك لا يثق بأيّ من أطراف ذلك التحالف، كما أنه ارتبط بعد حرب الكويت بتحالف قوامه دمشق والرياض والقاهرة لكن مبارك لم يكن يثق بالأسد. لكن لا نعرف حقيقة مواقف مبارك من أنظمة الخليج لأن موسى حريصٌ جدّاً على مشاعر حكّام الخليج، وعلى مشاعر الحكّام بصورة عامّة. لا ينتقد في الكتاب إلا القذّافي وحافظ الأسد وعلي عبدالله صالح فقط، ولا ينقد من الأشخاص إلا أسامة الباز (ويعيّره في حياته الشخصيّة وزيجاته). أما حكام الخليج فهو لا يتعاطى معهم إلا بالإطراء والمجاملة المفرطة. يتحدّث مثلاً عن سُبْحة منحه إيّاها الملك فهد، فيزيد: «وما زلتُ أسبّح بها وخصوصاً في شهر رمضان». لماذا في شهر رمضان، يا عمرو موسى (موقع ١٢٤١٧)؟ تخالك تتحدّث عن سبحة منحك إيّاها وليٌّ من «أولياء الله الصالحين».

 

 

التمثيل الديبلوماسي

عنده ينحصر في أوروبا الغربيّة وأميركا الشماليّة

 

وفي السياسة، وبعيداً عن مبادرات العلاقات العامّة التي أراد أن يكسب من وراءها شعبيّة مجانيّة من الرأي العام العربي، فإن سياساته بقيت محكومة بسقف حسني مبارك الذي كان يصرّ عليه أن يتجنّب مهما كان إغضاب الأميركيّين، كما انه حرص على الحفاظ على علاقة جيّدة مع حكم الاحتلال الإسرائيلي. ويؤيّد موسى مبارك في أهدافه تلك، ولا يعترض عليها. وفي صيف ١٩٩٠، يعترف أنه أيّد الإدارة الأميركيّة في إجهاضها لمبادرة فرانسوا ميتران الذي أراد أن يجنّب العراق والمنطقة حرباً تدميريّة (موقع ٧٣٤١). أما انتصاراته الديبلوماسيّة فتتلخّص بتفاصيل مشهد زيارة وزير الخارجيّة الأميركي، جيمس بيكر، لمكتبه في القاهرة. وهو يتحدّث عن الأميركيّين بإعجاب، مع أن الكتابات الأميركيّة الديبلوماسية لم تبادل إعجابَه بإعجاب (راجع رواية دنيس روس عنه في كتابه «محكومة بالنجاح»، ص. ٢٤٩. وراجع كتابه «السلام المفقود»). يقول عن أميركا أن «بيدها مقاليد التقدّم كلّها». هذه على نسق شعار ٩٩٪ من أوراق الحل بيد أميركا. وقد أسعد موسى أن الإسرائيليّين والأميركيّين قدّروا مواقفَه باعتبارها مواقف «محترمة وجادّة».

أما إنجازات موسى في وزارة الخارجيّة فتتلخّص حسب شهادته بـ: ١) إعادة تنظيم هيكليّة الوزارة. لكن تنظيم الوزارة ووضعها في سكّة المهنيّة والتدريب الدؤوب وامتحانات الدخول جرت في العهد الناصري باعترافه، وهو يقرّ أن المهنيّة في العلاقة بين الوزارة وبين الرئاسة كانت أفضل في العهد الناصري مما كانت عليه في العهد الساداتي والمباركي. ٢) يزهو بأنه استعمل عبارة «نحن العرب» في خطبته في مؤتمر مدريد. لكن هذا الإنجاز شديد التواضع لأن الخطبة بحد ذاتها لم تفك أواصر التحالف مع العدوّ الإسرائيلي، والتي كانت أوثق من العلاقات العربيّة للنظام. وكانت الإدارة الأميركيّة تتدخّل عندما لا يعجبها موقف ما من موسى لتدفع بمبارك كي يتجاهله أو يبعده. وهو سمع مادلين اولبرايت تطلب من مبارك أن يقصيه عن اجتماعات. ولم يعترض موسى ولم يصرّح بذلك للرأي العام، مع أن في طلب أولبرايت إهانة فظيعة للكرامة الوطنيّة للدولة المصريّة، ولشخص موسى.

٣) بعد اجتماعات «عصف فكري» أراد موسى أن يميّز عهده في وزارة الخارجيّة المصريّة بفكرة ما، فطلع بفكرة «المنتدى المتوسّطي». ولا ينكر أنه استقى الفكرة من كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، والذي أراد أن يُبعد مصر عن محطيها العربي، بالإضافة إلى ما في الكتاب من تملّق للغرب الاستعماري. لكن موسى لم يرَ التناقضَ بين الإنجاز الثاني والثالث.

٤) أما إنجازه الرابع، فكان في التنسيق — وتبادل التقاريرــــ بين المخابرات العامّة ووزارة الخارجيّة. لكن ألا يتناقض الإنجاز الرابع مع الأوّل؟ ٥) يؤمن موسى أن التصاريح والمؤتمرات الصحافيّة لها فعل السحر في العلاقات الدوليّة. وهو في ذلك يذكّر بذكريات أحمد الشقيري عن عمله في الأمم المتحدة. فيصبح التصريح الماهر والرد الشاطر بديلاً عن سياسة فاعلة، أو حتى عن معركة تحرير الأرض. يقول إن تصريحاً له عن حلايب كان له «مفعول السحر» (موقع ٨٤٨٩). ٦) ينوّه موسى بأنه وضع ملف جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح على طاولة الطرح. لكنه يعترف أنه فشل في تحقيق أي إنجاز في هذا الملف، بل على العكس، استطاعت أميركا أن تضغط على مبارك لإهمال الموضوع وهذا ما حدث بالفعل.

ولا ندرك في الكتاب مدى نجاح موسى في تحقيق أي مكاسب للعرب من خلال علاقاته بالحكومة الأميركيّة أو الاسرائيليّة. هو يعترف أنه طلب وساطة وزير الخارجيّة الأميركيّة، وارن كريستوفر (وهو محامي لكن موسى يقول عنه إنه اكاديمي) لدخول ابنه في جامعة أميركيّة، وهذا ما كان. استطاع كريستوفر أن يضمن له قبولاً في جامعة في ولاية نيويورك من دون عناء العلامات وامتحانات الدخول (موقع ١١٤٨٦). هل هذا يُعد إنجازاً آخر؟

ليست هذه مذكّرات عن مبادئ وعن قضايا: قارن بينها وبين مذكّرات محمود رياض. هذه مذكّرات عن الاختلاط بالطبقة الثريّة «الراقية» التي أحب موسى الانضمام إليها. هو لا يوفّر فرصة ليعلّق فيها على أناقة رجل أو حاكم. يقول عن حسني مبارك بالرغم من كل ما بات معروفاً عنه، خصوصاً وأن الكتاب يظهره على حقيقته أسيراً لإرادة الإدارات الأميركيّة المتعاقبة والمعونات العسكريّة الأميركيّة، إنه كان «شخصيّة أنيقة، بمعنى أنه كان لديه ذوق في المبلس» (موقع ١٧٣١٦). هذا ما يلفت عمرو موسى. ولهذا فإن الجولة الطويلة في عمله الديبلوماسي لا يصل إلى تسجيل إنجاز مصري أو عربي حقيقي واحد خارج نطاق الاستعراض الإعلامي والعلاقات العامّة، وجولات «شوبنغ» استطاع أن يُبهرَ بها حسني مبارك في مجمّع «تايسون كورنرز» الفخم خارج العاصمة واشنطن.

يروي صديق لي عن لقائه مع موسى عندما زار كندا قبل سنوات، عندما كان أميناً عاماً للجامعة العربيّة. كان صديقي صحافيّاً عربيّاً ناشئاً في صحيفة كنديّة معروفة، وكان متلهّفاً للحديث معه عن اللوبي الصهيوني وعن طرق خدمة القضيّة الفلسطينيّة. طلب موعداً لإجراء مقابلة فأعطاه مقابلة في السيّارة في رحلة من مدينة إلى أخرى. روى الصديق بعد ذلك متألّماً أنه اكتشف أن أكثر ما يهمّ موسى هو السيّارات الفخمة، وكان يقطع الحديث معه كي يمتّع نظره بسيارة فخمة مارّة في الطريق السريع مستفسراً عن نوعها. والأمر الآخر هو اهتمامه بملاعب الغولف. لكن مسيرة عمرو موسى — بمعياره الذي وضعه لنفسه باكراً — لم تصلْ إلى الفشل. هي وصلت بصاحبها إلى ما كان يريد بالضبط. تسنّى له الاختلاط بـ«الطبقة الراقية العالميّة وصالوناتها». كما أن شعبان عبد الرحيم غنّى له.