IMLebanon

تمرين في فَهْم الأرقام وتركيب الإتهام!

 

من شفافية «سيدر» إلى مطالعة خليل

يسجَّل للبناني، على سبيل المآخذ، أنه «كائن سياسي» ليس على طريقة أرسطو أي «مدني بالطبع» (وإن كانت هذه فكرة محفوفة بمخاطر الرفض واللاتاريخية، أو الخطأ المميت)، والسياسة بالنسبة للبناني، المتحدّر من أصول فينيقية، الذين نزلوا «سواحلنا في أزمنته ما قبل التاريخ» (وفقا لكتب التاريخ وكتبة الفينيقيين) الذين ينتمون إلى قبالئل الـ«فوتقو» الذين سكنوا على طول ساحل سورية حتى فلسطين، والذين انتشروا، في التاريخ، بين أرواد شمالاً ورأس الناقورة جنوباً، مروراً بجبيل وبيروت، وصيدا وصور، فجعلوا من البحر الأبيض المتوسط «بحيرة فينيقية»، بالنسبة لهذا «اللبناني» تعني السياسة «الفخفخة» وتعني «التشاوف»، وباتت تعني طريق «المجد وبلوغ الثروات والحصانة من الملاحقة، وتكثار التزاوج على طريقة المعاشرة غير الشرعية، كما هي حال المعابر، التي كشف عنها وزير المال علي حسن خليل، الفينيقي شكلاً، لكن الذي لا يقبل بغير «العروبة» هوية..

 

يتحدث اللبناني في السياسة، من موقع الإحتراف، سواء أكان سائق تاكسي، أو مستخدماً في «بارة» أو حانوت، أو حتى «مطعم فخم»، أو قهوة يرتادها زبائن، مليئون بالمال، أو متوسطي الحال، أو حتى فقراء..

 

وإذا كان أسلاف «اللبناني» هذا، أي قبائل «فينيوقو» عرفوا قديماً بأنهم «بحارة العالم وتجاره»، فإن مشهد اللبناني، في السلطة وخارج السلطة، كان بإمكان «مراقب محايد» مثلي، عرف لبنان القديم، المفاخِر بمجده الفينيقي، على طريقة ميشال شيحا وسعيد عقل (نظام الـ1943) أو ما عُرِف بنظام الامتيازات، ولبنان الجديد، أي «لبنان الطائف»، الذي أصبح فيه البلد «عربي الهوية والانتماء» في مقدمة الدستور، على طريقة «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» أو على طريقة «بلاد العرب أوطاني من شام لبغداد»، (كما كان يغني فريد الأطرش، على ما تحفظ ذاكرتي).

 

في لبنان الجديد، خرجت الطوائف من القمقم، لم يعد «القمقم» رداء الضعفاء للطوائف، حركات وتيارات وأحزاب، فصارت الطوائف ممثلة بالقرار، فأصبح السؤال: هل ممثّل هذه «الطائفة الممتازة» أم تلك (وسائر الطوائف أصبحت ممتازة) هو ممثّل الطائفة، أم ممثّل المتّحد، أي الدولة؟

 

وقع الإلتباس، وتأسست سلسلة التباسات، تبدأ ولا تنتهي، لتطرح سؤالا أو أسئلة عن هذا اللبناني «المتجلجب» بثياب العفة، والمسؤولية الفائقة، والحرص الشديد على المال العام، والموازنة، وسائر ما يعود بالريع والفائدة على اللبنانيين، أو على جيوب بعضهم: مَنْ هو هذا اللبناني، الذي كان يتحدث في المجلس النيابي، حيث ما يزال النائب «يمثل الأمة جمعاء، ولا يجوز ان تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل ناخبيه» (م27/د) أو السلطة التي تعنيه (حسب النص القديم قبل الطائف) وسواء أكان هذا اللبناني، نائباً، أو يجوز ان يكون وزيراً (نائب أو وزير) ينتمي إلى كتلة، أو لديه حيثية شعبية! (يا الله من الحيثية الشعبية؟!)، فهو يتحدث، هل باسمه، أو باسم عائلته، أو كتلته، أو طريقه، أو منطقته أو طائفته، أم باسم الأمة جمعاء، والحكومة جمعاء؟

 

وإذا كان اللبناني ينتمي إلى صنف «بحارة العالم وتجاره» أو صنف بالكرم طالع لحاتم، بالشجاعة الزير سالم) أي إلى الصنف العربي، الذي أعزه الله بالاسلام، فالسؤال إياه: كيف يكون النائب أو وزيراً منتمياً أو غير منتمٍ، ممثّل بالحكومة ويعارض الحكومة، ممثّل بكتلة حاكمة ومعارض في الكتلة التي تحكم…

 

شيء مرعب حقاً، يحتاج إلى عمر آخر، لا يجمع بين نظامي الـ 1943 و1989، أي صيغتي «الميثاق والوثيقة»، بل يمتد إلى ما بعد أجيال العالم الرقمي أو العالم «اللوغارتمي» (رحم الله أبو موسى الخوارزمي، الذي نُسب إليه علم اللوغاريتم في الرياضيات الحديثة) حتى يفهم الصيف والشتاء اللبناني، على سطح واحد، هو سطح المجلس النيابي، (الذي كل مرّة يتأزم الوضع يصبح سيداً لنفسه).

 

خصصت قسماً من وقتي، واستمعت إلى «المحصلات الرقمية» التي ساقها، ربما بأمانة نادرة وزير المال اللبناني (الذي يتمتع بذاكرة رقمية وغير رقمية اكتشفها رئيسه الأخ رئيس الحركة رئيس المجلس الأخ نبيه بري، بتعبيره)، وشكل هذا الاكتشاف انجازاً للرجلين، جعل المكتشف معاوناً سياسياً ورجل الملمات أو المهمات الصعبة، وهو اوردها مطمئناً إلى دقتها وصحتها، وعزا تفاقمها إلى ما وصفه بـ «التخبط في الأوضاع السياسية»، كاشفاً ان المديونية العامة تنمو إلى حدّ مرعب 22 و86 مليار دولار أميركي، أي ما نسبته 150٪ من مجمل الناتج الوطني، وهي واحدة من أكبر المديونيات في العالم، والخطيرة جداً بالنسبة لبلد صغير بمساحته واقتصاده مثل لبنان (الذي كان عاجقاً الكون بكم ارزة؟!)،

 

توقفت ملياً عند الأرقام المرهقة.. ورحت أتساءل: لماذا لم أذهب إلى الرياضيات، وأتدرب على التمرينات الذهنية الحسابية في فهم الأرقام؟

 

لأن في فهم الأرقام، مقدمة ضرورية لكل محاولة «سوء نية» يُمكن ان تركّب اتهاماً؟!

 

استساغ «الوزير السياسي»، الذي أعاد إلى طائفته سلطة المشاركة بقرار السلطة (عبر توقيعه كوزير مال) المضي بعيداً: ها هو ينتقل إلى الحدث الأخطر في اللعبة الرقمية: 136 معبراً للاشخاص والجماعات، يهرب البضائع، والأفراد، والحيوانات، ويفقد ميزانية الدولة عشرات بل مئات، أو ألوف الدولارات التي تحتاجها لردم الفجوة المرعبة» ما بين الدخل والانفاق، وتعبّد الطريق، أي الفجوة إلى المديونية،حيث يختلف وزير المال وحاكم مصرف لبنان، عن الجهة المقرضة أو المدينة وبأية فوائد..

 

ليس لديَّ «محفظة اتهام» لا يحق هذا الوزير وسواه… «فالإتهام الكبير» كان في الخلفية القريبة من قاعة الاجتماعات في المجلس، صدحت بها حناجر قدامى المحاربين، الذين تولوا لسنوات الدفاع عن «امتيازات الوزراء» والسادة النواب، وإذا هم الآن في الشارع يتحدثون عن «موازنة العار» ويرمون الطبقة السياسية، التي تشرّع لهم أمر «الموازنة» بما في ذلك الرواتب والحسومات على الرواتب والطبابة، بأقذع العبارات، وأبعد «النعوت».. ولكن ما العمل، مع طبقة، «تمسحت» ما يقال، وصارت تقايض كرامتها بحفنة من «دنانير» أو بإبعاد الشبهة عنها، بالتغني «بالديمقراطية» وسعة الصدر، وطول البال، ومعجزة «البرلمانية اللبنانية»!

 

دلَّت النقاشات عن عقلية، هشة، لا صلة لها، لا بالمسؤولية، ولا بالتشريع، الا باقدام الوكالة المعطاة، ولا بأى شيء آخر.. المهم، كيفية الاستمرار بالسلطة، المهم كيفية الاقتراض للنفقات المجدية وغير المجدية… استعدوا… «سيدر» بإنتظاركم!

 

إذا كانت «الشفافية» واحدة من متطلبات «سيدر» أو مؤتمر الدول المعربة عن استعدادها للإقراض، بصرف النظر عن مستوى الفائدة، ميسَّرة أو مكسرة، فإن سفير بلجيكا في لبنان هوبير كورمال، بدا من شمال لبنان بالغ القلق على مدى إمكان استفادة لبنان من أموال «سيدر» الفرنسي، مشترطاً ضمناً إصلاحات بنيوية، لا تقف عند حدّ الحدّ من تنامي التوظيف في القطاع العام، بل تأكيد الإلتزام بملف النزوح السوري، (تخيل ما هذا الربط الأوروبي بين الاقراض والانفاق على النزوح السوري؟!)..

 

ولبنان هذا، الفينيقي حتى العظم، والعربي، حتى النخاع الشوكي، لا يُخفي خوفه «مَنْ» هذا النزوح، بالرغم من الإشادة بالضيافة اللبنانية، وليس «بالقهوة فقط»، وهو يواجه خطة تحدٍ «مع الشعب الفلسطيني الشقيق» اللاجئ على خلفية تنظيم العمالة؟!