لقد منعتم الهواء عن لبنان، فقتلتموه. بهذا أفسدتم حياة الأطفال، وشوّهتموها. وأفسدتم أيضاً حياة الشعراء، وشوّهتم قصائدهم. ألا تكفي هذه الجريمة المثلّثة، لكتابة رسالة صريحة إلى المجرمين، ومَن يعنيهم مصير لبنان واللبنانيين؟
لبنان ليس في حاجةٍ إلى “حزب الله”، ولا إلى حركة “أمل”، ولا إلى “تيار المستقبل”، ولا إلى حزب “القوات اللبنانية”، ولا إلى “التيّار الوطني الحر”، ولا إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. هو أيضاً لا يحتاج إلى الحزب الشيوعي، ولا إلى الحزب التقدمي الاشتراكي، ولا إلى حزب “الكتائب اللبنانية”. لا يحتاج بالطبع إلى دار الإفتاء، ولا إلى بكركي. لن أنسى أنه ليس في حاجة إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولا الى مشيخة العقل، ولا إلى كلّ رجال الدين، من الطوائف والمذاهب كافة، ولا أيضاً إلى “الأحباش” و”الجماعة الإسلامية”. لا بدّ أنني أنسى التعداد بسبب تراخي الذاكرة وآلام الوجود. ثمة الكثير الكثير من الأطراف الذين يجب أن أسمّيهم بالاسم، لأقول إن لبنان ليس في حاجة إليهم. هو، أي لبنان، وباختصارٍ شديد، لا يحتاج إلى رجال المخابرات، ومندوبي الدول، ولا إلى الأديان، ولا إلى الأحزاب الدينية، ولا إلى الأحزاب غير الدينية الملحقة بأذيال الجماعات الدينية. هو لا يحتاج إلى أهل الفساد والنهب والسرقة واللصوصية والمحاصصات، ولا إلى أصحاب الشعارات الفضفاضة الرنّانة الخاوية، من كلّ حدب وصوب. هو يحتاج فقط إلى الهواء. هؤلاء المذكورون أعلاه يمنعون عنه الهواء.
* * *
انتبِهوا جيداً، واسمعوني جيداً، واقرأوني جيداً (بتواضع هائل، ومن دون تلقين بالطبع):
لبنان لا يحتاج إلى السيد حسن نصرالله، وإلى الأستاذ نبيه بري، ولا إلى الدكتور سمير جعجع، ولا إلى الجنرال ميشال عون، ولا إلى الأستاذ وليد جنبلاط، ولا إلى الأستاذ سعد الحريري، ولا إلى الرئيس أمين الجميل، ولا إلى الأستاذ خالد حدادة، ولا إلى بطريرك الموارنة، ولا إلى المفتي، ولا إلى شيخ العقل، ولا إلى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولا إلى جميع رؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية، الرئيسية والثانوية على السواء، مع الاعتذار لعدم ذكر أسمائهم فرداً فرداً.
إذا كنتُ غافلاً عن أحد – ولا بدّ أنني غافلٌ بسبب كثرة هؤلاء – فأرجو أن تضيفوا المنسيين، أو كلّ الذين سقطوا سهواً، وعفواً، ومن دون قصد. لا أريد الانتقاص من كرامة أحد في الداخل، بعدم ذكر اسمه. الجميع معنيون هنا، ولا استثناء. ليس عندي أحدٌ أستثنيه، ولا جهة. أقول الجميع، وأعني الجميع، وإن كانت مراتب المسؤولية متفاوتة. فأنا، على سبيل المثل، لن أساوي مسؤولية “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” بمسؤولية الآخرين، كلّ الآخرين. هذه قضيةٌ مفروغٌ منها عندي. ولا لزوم لإعادة التذكير بها.
* * *
إلى الذين يعتقدون أن ثمة “ضعفاً” عندي حيال زعيم، أو جهة، أريدكم أن تعرفوا جيداً، أن قلبي باطونٌ مسلّح حيال هؤلاء جميعاً، وأن عقلي محرَّرٌ تماماً من هؤلاء جميعاً. فقط، يتملكني الاعتقاد الجدلي (هو بالطبع عرضة للخطأ) بأن ثمة مَن هو مسؤول أكثر من الآخر، وبأن مسؤوليته، في هذا الصدد، هي مسؤولية تاريخية. أقول المسؤولية، وأعني الجريمة. الكلّ في هذا المعنى مجرم، لكنني لا أساوي بين المجرمين!
* * *
شيءٌ مهمٌّ، بل بالغ الأهمية، لا بدّ أن أقوله لهؤلاء كلّهم: إذا كان لبنان، في رأيي، ليس في حاجة إلى المذكورين أعلاه، فهذا لا يعني أنني أدعو إلى استئصالهم، أو إلى إلغائهم، أو إلى اتخاذ أيّ تدبيرٍ تُشتَمّ منه روائح الإبادة والقتل والمصادرة والترهيب، وسوى ذلك مما هو دارجٌ عندنا، على أيدي المتخصصين في هذا الشأن.
لا، يا سادة. هذه الطريقة، لا تنفع في شيء، بل تقوّي هؤلاء، وتزيد طينهم بلّة.
دعوهم يبلعطون في المستنقع. سيختنقون في المستنقع.
… أو يختنق المستنقع بهم.
أقول المستنقع، وأقصد لبنان الراهن.
* * *
هاكم لبّ الموضوع: ليس عندنا مواطنون، وليس عندنا أحزاب وتيارات وطنية. اللبنانيون ليسوا مواطنين، وأحزابهم وتياراتهم ليست وطنية ولا لبنانية.
بعيداً من هذا الجدال السفسطائي، المطلوب هو واحد: أن ننتمي إلى الوطن، وليس إلى وطن السيد حسن، ولا إلى وطن الأستاذ وليد، ولا إلى وطن الجنرال، ولا إلى وطن الحكيم، ولا إلى وطن الأستاذ نبيه، ولا إلى وطن الأستاذ سعد، ولا إلى وطن الشيخ أمين، ولا إلى وطن الدكتور خالد، ولا إلى وطن البطريركية المارونية، ولا إلى وطن البطريركية الشيعية، ولا إلى وطن البطريركية السنّية. لا إلى وطن قم، ولا إلى وطن مكة، ولا إلى وطن الفاتيكان.
* * *
ترونني أشدّد على الأسماء، وأكرّرها. سامِحوني، لكن لا بدّ من هذين التكرار والتشديد، لأن الحلّ الوحيد هو أن نصير لبنانيين مدنيين، وأن ننتج أحزاباً وتيارات مدنية. هكذا يصير عندنا لبنان مدني. هكذا فقط يعود الهواء إلى لبنان.
صدِّقوني. عبثاً نواصل التعلق بثياب هؤلاء المذكورين أعلاه. كلّما تشبّثنا بهم، ازددنا نزولاً إلى القعر، ومعنا لبنان.
لتسهيل المهمة التاريخية (هل أقول المستحيلة؟!)، أسمح لنفسي بمواصلة القول الفجّ الصريح غير الهيّاب: نحن ليس عندنا يسارٌ حقيقي. ثمة بالتأكيد يساريون حقيقيون، ولكن “اليسار” الذي عندنا هو “يسار” بعض هؤلاء المذكورين أعلاه. والحال هذه، نحن نحتاج إلى يسار حرّ، مدني، ديموقراطي. يسار محرّر من “اليسار” ومن “اليمين”. هذه ضرورة مطلقة.
* * *
لبنان يحتاج إلى الهواء الذي يصنعه أهل الهواء. الإنسانويون، المدنيون، الديموقراطيون، المتعبون، المظلومون، الفقراء، المرضى، المشرّدون، المنسيون، الهامشيون، الأحرار، المثقفون الخارجون على أنفسهم وثقافاتهم، الشعراء، العشّاق، الفنّانون، وأهل العقول السمحاء والقلوب السمحاء.
هؤلاء هم الوطنيون اللبنانيون. بهؤلاء يجب أن نصنع أحزابنا وتياراتنا. ومن هؤلاء يجب أن ينبثق قادتنا.
* * *
على هامش هذه الرسالة الموجَّهة إلى المجرمين، ومَن يعنيهم مصير لبنان واللبنانيين، لن أنسى، مرةً ثانية، توجيه تحية إلى “ملحق نوافذ” الذي أُغلِقت نافذة هوائه المتألقة قبل أسابيع قليلة. وتحية بالتأكيد إلى الذين تعاقبوا على مسؤوليته، وآخرهم زميلنا الشاعر يوسف بزّي.