ليس من تقاليدِ لبنان أنْ يَقبلَ بإقامةِ قواعدَ عسكريّةٍ على أراضيه أو في بحرِه. ربما لأنَّ غالِبيّةَ طوائفِه ومذاهبِه هي أصلًا قواعدُ لدولٍ أجنبيّة. ورغمَ انتشارِ مفهومِ «الحمايةِ الأجنبيّة» عبرَ تاريخِهم، لم يُطالب اللبنانيّون، على العموم، بقواعدَ عسكريّة. سَبقَ لهم، دولةً وطوائفَ، أن طالبوا بحماياتٍ موَقّتةٍ لمنعِ سقوطِ الدولةِ (سنة 1958) أو تَقبَّلوها للحؤولِ دون إبادةِ مكوّنٍ اجتماعيٍّ (1976/1982) فارتدَّت على طالبيها واستفادَ منها أخصامُهم وأعداؤهم. حتّى في زمنِ الانتدابِ، رَفض لبنانيّون سنةَ 1936 الاتفاقيّةَ العسكريّةَ مع فرنسا.
لكنَّ ذلك لم يَمنعْ فئاتٍ لبنانيّةً من الاستعانةِ بدولٍ أو منظّماتٍ غريبةٍ لتحقيقِ مكاسبَ سياسيّةٍ ودستوريّةٍ أو انتصاراتٍ عسكريّةٍ على فئاتٍ لبنانيّةٍ أُخرى بين 1975 و 1990. وما عدا حقباتِ الاحتلال، لم يَشهَدْ لبنانُ وجودًا عسكريًّا شرعيًّا ثابتًا سوى القوّاتِ الدوليّةِ العامِلةِ في جَنوب لبنان. وما كانت هذه القوّاتُ لتَنتشرَ في الجنوبِ سنةَ 1978 وتَثْبُتَ سنةَ 2006 لو لم تَتنازل الدولةُ عن سيادتِها وشرعيّتِها، مرّةً أولى للمنظّماتِ الفِلسطينيّةِ، ومرّةً ثانيةً لإسرائيل ومرّةً ثالثةً لـ«حزبِ الله»، مع التمييزِ – طبعًا – بين الأطرافِ الثلاثة.
واليوم، فيما سُرِّبت فكرةُ تمركزِ قوّاتٍ روسيّةٍ مسافةَ عشرينَ كيلومترًا داخلَ الحدودِ اللبنانيّةِ الشرقيّةِ من أجلِ استطلاعِ ردّةِ فعلِ الأطرافِ اللبنانيين، يَتمُّ التداولُ في المحافلِ الدوليّة أيضًا في كيفيّةِ تحييدِ لبنان وضمانِ استقلالِه وسلامتِه وسطَ الأحداثِ المتفجِّرةِ حولَه. فالدولُ الصديقةُ، وإن كانت تُقدِّر قوّةَ الجيشِ اللبنانيّ وشجاعتَه، تُدرك بالمقابل محدوديّةَ قُدرتِه السياسيّةِ على التحرّك عسكريًّا، إذ لا يَكفي أن يملِكَ الجيشُ القوّةَ – وهو يَملِكُها – فالمهِمُّ أن يُعطى القرارَ السياسيَّ ـ وهو يَفتقِدُه – لاستعمالِ قوّتِه من أجلِ بسطِ سيادةِ الدولةِ وحدَها على الأراضي اللبنانيّةِ كافة. فمنذُ مدّةٍ يحاول المسؤولون تغطيةَ تقصيرِهم في مواجهةِ الحالاتِ الخارجةِ عن الشرعيّةِ، بتصويرِ الإرهابِ التكفيريِّ كأنّه الخطرُ الوحيدُ في لبنان، والمهمّةُ الوحيدةُ للجيش.
منذُ سنةِ 1951 (الثورةُ البيضاء)، تحوَّلت الأزماتُ السياسيّةُ في لبنان فتنًا أو حروبًا لأنَّ السلطةَ السياسيّةَ لم تُعطِ الجيشَ اللبنانيَّ الضوءَ الأخضرَ للتدخّلِ، أو لأنَّ قيادتَه رَفضت التدخلَّ لقمعِ الاضطراباتِ في بدايتِها لغاياتٍ وصوليّة. مرّةً واحدةً كان عدمُ تدخّلِ الجيشِ مفيدًا ووطنيًّا يومَ 14 أذار 2005، حين امتَنعَ قائدُ الجيشِ، آنذاك، العمادُ ميشال سليمان، عن مواجهةِ الشعبِ الذي تدفّقَ مليونًا إلى ساحةِ الشهداء.
أكانت فكرةُ الانتشارِ الروسيِّ واردةً أم مُختلَقةً، لا بدَّ من التوقّفِ عندَها إيجابًا واسْتنباطِ أبعادَها للانطلاقِ في وضعِ استراتيجيّةٍ سياسيّةٍ – عسكريّةٍ تُنظِّم عَلاقاتِ لبنانَ مع الدولِ الأعضاءِ في مجلسِ الأمنِ الدوليّ، لاسيّما مع أميركا وروسيا وفرنسا من دون عُقدٍ وحياءٍ، لأنَّ مصيرَ لبنانَ مطروحٌ وإنْ لَسنا في حالةِ حربٍ ساخِنة.
إنَّ السنواتِ العشرَ المقبِلةَ ستَشهدُ ولادةَ الخريطةِ الجديدةِ لدولِ الشرقِ الأوسطِ وشعوبِه، وهي ستَتراوحُ بين التقسيمِ والفدراليّةِ. جُزءٌ من الخريطةِ رسمتْه الحروبُ على الأرض، والجُزءُ الآخَرُ ستَرسُمه الديبلوماسيّةُ في المؤتمرات. لكنَّ السنواتِ الثلاثَ المقبِلةَ مليئةٌ بتطوّراتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وعسكريّةٍ من شأنِها أنْ تؤثّرَ على الحلولِ الديمغرافيّةِ والدستوريةِ النهائيّة.
بعيدًا عن انهماكِ السياسيّين اللبنانيّين بالصغائرِ وإهمالـِهم القضايا المصيريّة، حريٌّ بنا أن نُراقبَ ونواكبَ في هذه السنواتِ الثلاثِ التطوّرات التالية:
-1 مصيرُ الحروبِ العربيّةِ بعد نهاية «الربيع العربي».
-2 بروزُ جيلٍ تكفيريٍّ ثالثٍ بعد جيلَي «القاعدة» و«داعش» في حالِ سيطرَ بشّار الأسد على كلِّ سوريا.
-3 انقشاعُ وضعِ إيران في سوريا ولبنان عسكريًّا، وفي الداخل نظاميًّا واقتصاديًّا، ودوليًّا من خلال الملف النووي.
-4 معرفةُ مدى توسّعِ روسيا عسكريًّا وسياسيًّا في المشرِق بعد تمركزِها في سوريا.
-5 وتيرةُ ديناميّةِ التغييرِ في دولِ مجلسِ التعاونِ الخليجي.
-6 مسارُ حلِّ النزاعِ بين إسرائيل وفلسطين.
-7 انقشاعُ العلاقاتِ الأميركيّةِ ـ الروسيّةِ، والأميركيّةِ ـ الصينيّة في الشرقِ الأوسط وأوروبا.
هذه القضايا الكبرى لن تُحدّدَ نوعيّةَ الشرقِ الأوسطِ الجديد فقط، بل ستَكشِفُ ما إذا كانت الحلولُ المرتقبةُ ستَتمُّ سلميًّا أم ستَمرُّ في حروبٍ أخرى، لاسيّما بين إسرائيل وإيران مع احتمالِ تدخّلٍ أميركيّ. لذا، يُفترضُ بلبنانَ أنْ يَحميَ نفسَه في فترةِ السنواتِ العشرِ المقبلةِ، ويحاولَ أنْ يَجذِبَ الدولَ الكبرى إليه عوضَ أن تَجذِبَه هي إليها وتُحوّلَه دُميةً في لُعبةِ الأمم. لتمريرِ هذه الفترةِ، تَقضي مصلحةُ لبنانَ الوجوديّةُ عقدَ اتفاقاتٍ استراتيجيّةٍ مع كلٍّ من روسيا وأميركا وفرنسا (على سبيلِ المثال) لتعزيزِ دورِها في لبنان وتَنويعه وصولًا إلى المجالِ العسكريّ. فلْنورِّطْها. أنخاف على استقلالِنا وهو رمزيٌّ، أم على سيادتِنا وهي مُنتهَكةٌ؟
إذا تَجرّأت الدولةُ وتَبنَّت هذه الفكرة وأَقنعَت الدولَ الكبرى بها، يُصبح لبنانُ جُزءًا من أمنِ دولِ مجلسِ الأمنِ الدوليِّ فتَحرِصُ عليه وتمنعُ المسَّ بسيادتِه واستقلالِه وأمنِه وتتسابقُ على دعمِ استقرارِه واقتصادِه عوضَ أن يَبقى جُزءًا من حروبِ دولِ المِنطقةِ وصراعاتِها الهمجيّة. لقد حوّلنا لبنان قاعدةً لدولٍ هدَمته وخَرقَت كيانَه وأَضعفَت دولتَه وقَسَّمت شعبَه؛ أليسَ الأفضلُ أنْ نُحصّنَه اليومَ دوليًّا فنَحمي كيانَه ونُقوّيَ دولتَه ونُعيدَ إليه وجهَه الراقي والحضاريّ ونحيّدَه عن الخرائطِ الجديدة؟
مثلُ هذا المشروعِ يتناقض مرحليًّا مع مشروعِ الحيادِ اللبنانيِّ. لكنْ هل اعتَمدَ لبنانُ مشروعَ الحيادِ حتى نرفضَ العلاقاتِ الاستراتيجيّةَ مع دولِ مجلسِ الأمنِ الدوليّ وهي متعدّدةُ المحاور؟ لا بالحيادِ نَقبَلُ، ولا بالنأيِ بالنفسِ نلتزمُ، لا بل يأبى البعضُ للدولةِ شرعيًّا ما يَقوم به هو لاشرعيًّا. ألا تَنتشرُ على الأراضي اللبنانيّةِ قواعدُ عسكريّةٌ إيرانيّةٌ وسوريّةٌ وفِلسطينيّةٌ وتكفيريةٌ؟ فإما قواعدُ للجميعِ أو لا لأحدٍ. وإما التزامُ الحياد أو عقدُ اتفاقاتٌ عسكريّة دوليّةٌ لحمايةِ لبنان. الخَشيةُ أنْ تَتفرَّجَ الدولةُ على الحلولِ تَمرُّ من أمامِها ولا تختارُ لا الحيادَ اللبنانيَّ، وهو الأفضلُ، ولا الحمايةَ الدوليّةَ؛ فيَبقى لبنانً عِقارًا غيرَ صالحٍ للبناء.