يُجمع زوار العواصم الفاعلة التي تتعاطى بملف المنطقة أنّ الرعاية الدولية للأمن في لبنان قائمة بهدف لجم كل ما يؤدّي الى مرحلة من الفوضى. وهو ما يفسّر التدابير العسكرية والأمنية التي اتُّخذت ترجمةً للتحذيرات الدولية لتعزيز المراقبة في مناطق التوتر المحتمَلة. فالجميع بات يعرف أنّ كل ما جرى يؤكّد وجودَ قرار دولي بتحييد لبنان عن مناطق التوتر. فكيف سيترجم؟
يعترف بعض الديبلوماسيين العرب والغربيين أنّ بعض اللبنانيين والعرب كانوا يحتاجون الى التجربة ـ المحنة الأخيرة ليكونوا على يقين بأنّ هناك قراراً دولياً يترجم توافقاً شاملاً على حماية لبنان ومنع انزلاقه الى حال من الفوضى أيّاً كانت الأسباب التي يمكن أن تقود اليها.
وأنّ كل ما يجري في محيطه وخصوصاً على مساحة المنطقة المتفجّرة نتيجة استمرار الأزمتين السورية والعراقية بكل مظاهرها العنفية التي فاقت كل التوقعات في السنوات الأخيرة، وصولاً الى البحرين واليمن لن ينتقل الى لبنان وأنه سيبقى في منأى عن تردّداتها الفتنوية السلبية ولا سيما منها الدموية.
وتطبيقاً لهذه التأكيدات الديبلوماسية التي لم يخرج عنها أيٌّ من سفراء الدول قادة المحاور التي تخوض المواجهة الكبرى في مجمل الأزمات العالمية، يتحدث بعض زوّار العواصم الكبرى المؤثرة في المنطقة عن هذه المعادلة الدولية بكل ثقة ويسترسلون في الكلام عن الجهود التي بذلت لتطويق أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري وما احاط بها من التباس وغموض نادرين.
ولذلك فقد شغلت لأيام العالمين العربي والغربي وعواصم الدول الكبرى والمؤسسات الدولية والأممية بفعل الحراك السياسي والدبلوماسي الذي قاده رئيس الجمهورية مستفيدا من الإجماع الذي لم يتحقق في الداخل بمثل ما تجلى هذه المرة على مستوى اهل الحكم والحكومة والمعارضة في آن.
وعلى هذه الخلفيات يعترف ديبلوماسيون معتمدون في بيروت انه كان لهذا الموقف اللبناني النادر الصدى الإيجابي في كل مكان. وهو ما أدّى الى تحويل الرسالة اللبنانية صرخةً مدوية تردّد صداها في العالم الذي عبّر منذ اللحظة الأولى عن إجماع وتوافق دوليَّين لمنع ما يؤدّي الى الإنفجار الذي شهدته عواصم ومدن عربية عاشت ما يشبه الأزمة اللبنانية الأخيرة، وهو امر قل نظيره باعتراف الجميع حيال اي حدث سبقه سواء كان اقليمياً او دولياً.
ويلتقي هؤلاء السفراء مع زوار بعض عواصم القرار على قراءة ردات الفعل الدولية بحجم الإجماع اللبناني. فقد شهدوا على فتح خطوط التواصل بين العواصم الكبرى وزعمائها في ما بينها على وقع الحراك الذي قاده رئيس الجمهورية مستفيداً من الإهتمام الدولي بمسار الأزمات الدولية المترابطة في ما بينها نتيجة تورّط الجميع في معظم الأزمات الدولية من كوريا الشمالية وبحر الصين الى اوكرانيا ومنهما الى شرق البحر المتوسط والخليج العربي.
كما تسلّح لبنان بما حقّقه في نهاية الصيف الماضي من انتصار على الإرهاب جعله قبلة قادة المواجهة الدولية التي جمعت جيوشاً واسلحة الحلف الدولي بزعامة الولايات المتحدة، والحلف الخليجي – الإسلامي بزعامة المملكة العربية السعودية والمحور الروسي ـ الصيني – الإيراني – التركي، والذين توحّدوا حول لائحة واحدة للمنظمات الإرهابية والتي توسّعت لتشمل بموجب العقوبات الأميركية والأوروبية احزابَ الساحة اللبنانية.
وبناءً على ما تقدّم، يلقي زوار واشنطن وباريس وموسكو وبرلين ولندن الضوء على جانب آخر من ردات الفعل الدولية على ازمة الإستقالة. فرصدوا بالإضافة، الى سلسلة المواقف التي عبّرت عنها وزاراتُ الخارجية والهيئآت الإقليمية والدولية رفضاً لما حصل، حجم الإتصالات التي تمّت بين رؤساء الدول الذين كانوا يواكبون بالإضافة الى حدث الإستقالة الحريرية من الرياض ما يجري في المملكة من متغيّرات مفاجِئة على مستوى إعادة تكوين السلطة فيها عقب التوقيفات التي شملت عدداً كبيراً من الأمراء السعوديين والوزراء الحاليّين والسابقين والقادة العسكريين الذين يتعاطون يومياً مع مراكز المال والبورصات العالمية والمؤسسات الإستثمارية الدولية وجيوش الحلف في اكثر من أربعين دولة في العالم، ما وضع لبنان على خط الأزمة.
وظهر للمهتمّين من كل انحاء العالم أنّ أزمة الحريري هي الأسهل تداركاً للمخاطر التي يمكن أن تنعكس على لبنان ومحيطه في مرحلة هي الأدق على الساحتين السورية والعراقية. ولذلك فقد شكّل حلّها بوابةً لإستكشاف حقيقة ما يجري في الرياض وعملية جسّ نبض لمعرفة الحرب المعلنة فيها على الفساد لهدف معلن وتحت عنوان اختصرته القيادة السعودية باستعادة ثقة المستثمرين الغربيين والعالم بالممكلة التي أطلقت مشاريع دولية وفق رؤية العام 2030.
وانطلاقاً من هذه الوقائع المتسارِعة فقد شكّل حلّ أزمة الحريري بوابةً لإستشكاف المرحلة المقبلة في لبنان وهو ما اشار اليه البيان المشترَك للرئيسين الفرنسي والأميركي، فقاد الأول المبادرة لنقله من الرياض الى باريس واعطى الثاني الضوء الأخضر لحماية مشروعه في المنطقة لكنّ ذلك لم يكتمل ما لم يتجاوب اللبنانيون مع التفاهمات الدولية التي رافقت عودة الحريري انطلاقا مما قالت به استقالته في مضمونها السياسي الداخلي والإقليمي والدولي.
ولذلك فإنّ قرار الحياد الذي يريده العالم للبنان هو المخرج لطيّ الأزمة وعدم تكرارها مرة أخرى.
وختاماً تنتظر المراجع الدولية الراعية للتفاهم الجديد المبني على حياد لبنان ولو على «مراحل متدرّجة» تجاوباً لبنانياً شاملاً يبعده عن الأزمات التي لم تنتهِ فصولاً بعد. وإنّ على رئيس الجمهورية وأهل الحكم توفير الحدّ الأدنى ممّا هو مطلوب.
وعليه فإنّ التوقعات تشير الى أنّ الحريري سيقدّم لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون في اللقاء المنتظر بينهما خلال ساعات «بيان استقالة الرياض» وإن تغيّر شيءٌ في شكله فإنّ المضمون سيحتفظ به كاملاً على خلفية القول إنه ليس مستعداً لتعريض الأمن السياسي والاقتصادي للدولة الى أيّ مخاطر كتلك التي كان يمكن أن تنتج عن اجتماع وزراء الخارجية العرب لولا التفاهم الجديد الذي صيغ بحراك فرنسي ـ أميركي بلا غياب روسي، وربما إيراني، سيترجَم بحصول رئيس الجمهورية على تنازلات مطلوبة من حلفائهم في بيروت لإنقاذ العهد ولبنان.