|
تُفضي الانتخابات اللبنانية المُقرّرة بعد يومين إلى توازنات داخلية قد تشهد بعض التغيير، لكن نتائجها السياسية تبدو معروفة سلفاً وجُلّ ما يُقال فيها أنها تتماشى مع الإرادة الدولية التي فرضت تسوية تولي الرئيس ميشال عون منصب رئاسة الجمهورية، وتتلازم مع أجندات وبرامج عمل ذات طابع اقتصادي تشترك في صياغتها أطراف عدة وتُرسم لمرحلة ما بعد الانتخابات.
التحالفات الظرفية التي تسبق الانتخابات تعكس الخلل الذي أخذ ينهش التركيبة والبنية المجتمعية أكثر مما تعبّر عن مواكبة محطة أو استحقاق سياسي ينتظره اللبنانيون كل 4 سنوات. بدأت القصة مع المظلومية التي انساق لها الأطراف المسيحيون على خلفية التفوق الديموغرافي للمسلمين وتحكّمهم بعدد كبير من المقاعد النيابية الخاصة بهم. طال الأمر إلى حد إدخال المفهوم النسبي على نظام وتركيبة طائفية صُنعت لتحفظ خصائص لبنان المناطقية والزعامات المحلية التي صمدت طويلاً بما اختزنته من تنوع وليونة ميّزتها وانعكست على النظام السياسي اللبناني برمّته، لا بل صمدت بوجه مشاريع التغيير اليسارية التي حاولت تجاوز الصيغة التقليدية للنظام. وقد صيغ القانون الفسيفسائي لكي يضرب الأسس المنطقية للتحالفات السياسية، وهذا ما كان مطلوباً من القانون بهدف تحويل لبنان إلى ليبرالية مُحدّثة تحكمها مصالح كبيرة تتداخل فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية وفقاً لنموذج شبيه بالفلسفة التي تقف خلف مفهوم «السلام الاقتصادي».
على هذه الخلفية تتشكل معالم انقسام سياسي يقلّل من حدة العناوين السياسية لمصلحة القضايا المعيشية الأخرى.
يتحضّر لبنان إذاً إلى الدخول في فلسفة «السلام الاقتصادي» بعد الانتخابات في ظل حجم متفاقم للدين العام يتجاوز الـ80 بليون دولار، وهذا وحده يكفل انسياق اللبنانيين إلى ترجيح أداء مصلحي جديد يرتبط بالحاجات الملحة أكثر مما يتعلق بالثوابت في السياسات العامة.
يكمن أساس هذه الفلسفة بشقها السياسي في الحفاظ على القرار 1701 الذي يضمن الاستقرار في جنوب لبنان، والإبقاء على سياسة النأي بالنفس كمعادلة حكومية مستدامة، واعتماد الحوار الطويل الأمد حول الاستراتيجية الدفاعية. ويعتمد شقها الاقتصادي على انخراط الكارتيلات اللبنانية بإعادة إعمار سورية، وترتيب ملفات النفط والثروات الاقتصادية بما يتلاءم مع هذه الرؤية التي تكفل بدورها مراوحة لبنان في الاعتماد على سياسة الاستدانة في شكل مستدام، وتلطيف أخطار السياسات الاقتصادية تلك عبر إقامة المؤتمرات الدولية.
طبعاً في الطريق إلى ذلك تتشكل القواعد الهجينة للتيارات الليبرالية في شكل عام، وبخاصة تلك المنخرطة في هذه الرؤية، بطريقة تجعلها مطواعة للزعامات التي تقودها. وقد جرى ترتيب البيوتات الداخلية على نسق يخلو من النقاش في الخلفيات ويُرجّح التعلّق بالحسابات المصلحية. وقد حَوَت لوائح الترشيحات لهؤلاء ثقلاً معتبراً لرجال المال والأعمال وحضوراً راجحاً للسياق الليبرالي الذي يشي بخصائص جديدة قد تطرأ على المعادلة الاقتصادية في السنوات المقبلة.
اللافت في كل ذلك أن توجهات المعادلة الاقتصادية أظهرت ابتعاداً مضطرداً عن الثوابت التي راكمها لبنان خلال الحقبة الماضية وبخاصة تلك المتعلقة بأخذ العبر من دروس الحرب الأهلية التي تأسّست في أحد أبعادها على أزمات معيشية.
هذه المرة الطائف في خطر! وقد تشبه هذه الحقبة مرحلة خروج لبنان من الحرب الأهلية والتركيز على إعادة إعماره وفق الفلسفة التي استمرت من 1990 وحتى عام 2000، حين رعى حافظ الأسد معادلة التوازن اللبناني بمعزل عن التطبيق السليم لاتفاق الطائف.
في المقابل لا بد أن يترتب على فئات واسعة قد لا تجتمع على قراءة إقليمية واحدة، أو هي في موقع الخصومة الداخلية، أن تنخرط في قراءة ثنائية الطابع يضمن أوّلها الحفاظ على قدر من واجبات الدولة في الرعاية والمسؤولية الاجتماعية، ويتعلّق ثانيها بالحفاظ على صيغة كرّسها اتفاق الطائف كمعادلة تحفظ توازنات الداخل.
هذه القراءة لا بد أن تطرح نفسها كقاعدة اصطفاف محوري لمرحلة ما بعد الانتخابات. وأيضاً لقواعد تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس للمجلس النيابي وغير ذلك من الاستحقاقات الداخلية.
بالتالي فإن الصراع الداخلي بعد 6 أيار (مايو) سينشأ وفق توزّع قوى جديد يُظهر في شقه الأوّل صراعاً يتمحور حول مَن يريد استثمار زخم العهد والمظلة الدولية لتعديل قواعد الطائف في مواجهة مَن يعمل على مُمانعة التحايل على جوهر ومضمون هذا الاتفاق، وفي شقه الثاني يُظهر أن تسويق قانون انتخابي على قاعدة النسبية مع الطائفية إنما أخذ البلد إلى نموذج منفعي ومصلحي يعزز التوجهات الشعبوية في السياسة والاقتصاد في شكل يحد من قيمة الثوابت الوطنية وحجم التضحيات التي قدمها اللبنانيون. وهذا نسق تقليدي تعتمده المدرسة النيو- ليبرالية في العادة. وقد احتضن هذا العهد توجهات تعكس البُعد المصلحي والذاتي البعيدة عن القيَم التي يتغنى بها اللبنانيون عادةً، بخاصة في التعاطي في موضوع النازحين السوريين. ولا شك في أن الضرر العميق الذي أوقعه هذا القانون يكمن في أنه أفسد القيمة الإصلاحية للنظام النسبي الذي بقي يمثل طموح فئة كبيرة تطمح للمشاركة في الحياة السياسية.
النيو- ليبرالية المُحدثة أو «السلام الاقتصادي» الذي تقوم رعايته في لبنان هذه المرة على تواطؤ روسي غربي إنما يقطع زمنياً مع مرحلتين، واحدة امتدت منذ الطائف حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والثانية امتدت منذ تلك اللحظة إلى تاريخ التسوية التي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية.