قد لا يصدّق أحد أنّ الانتفاضة الشعبية لمئات آلاف اللبنانيين قد انطلقت بشرارة دعوة عشرة ناشطين عبر وسائل التواصل، وأنّها بدأت بأقل من 100 شخص تجمعوا في ساحة رياض الصلح، وتحوّلت خلال أقل من ساعتين الى سيل جارف في كل المناطق.
قد يكون هذا الكلام تبسيطاً، ولكنه يعكس الحقيقة. كانت تلك الشرارة، التي اشعلت برميلاً سميكاً من البارود، تجمّع على مدى سنوات وسنوات، واتت لحظة، شعر فيها لبنانيون من كل المناطق والطوائف، انهم منتهكون بكرامتهم قبل لقمة عيشهم، وانّ استكباراً يُمارس عليهم، استنفد صبرهم وقدرتهم على التحمّل، ودفعهم الى الشارع، غير مبالين بالخطر والتحذير.
لم تكن الطبقة السياسية الحاكمة تتوقع هذه الانتفاضة، ولهذا تمادت في تكرار السلوك نفسه، وكانت قرارات «الواتساب» والضرائب قطرة الماء التي أفاضت كأس اللبنانيين.
هذه جردة بسيطة لردة فعل القوى السياسية المشاركة في الحكومة، وتلك التي لم تشارك.
على الرغم من معارضتها من داخل الحكومة، لم تتوقع «القوات اللبنانية» تحرّك الشارع، ولو توقعت لاستقالت قبل مدة طويلة، وعندما فعلت انما كانت تنعى التسوية، في حين أنّ تفاهم معراب لم يعد يحتاج الى من ينعيه.
لم يتوقع الرئيس سعد الحريري، ما حصل في الشارع، ولو توقع لمنع الوزير محمد شقير من ان يشعل عود الثقاب، ولواجه الوزير جبران باسيل، قبل ان يستفحل خطر هذا الأداء على التسوية، وعلى الحريري نفسه.
لم يتوقع «حزب الله»، أن تشتعل بيئته بالتظاهرات، ربما اعتقد انّ ساحته مقفلة، وأنّ بالامكان، ضبط الساحات الأخرى بالوسائل الشرعية وغير الشرعية، لكن الحسابات لم تنطبق على بيدر الحزب، فاضطر امينه العام السيد حسن نصرالله الى نزع القناع، والى الدفاع عن «حكومته» وعهده»، بسلاح الاحتياط، مع تحذير الحريري وجنبلاط من الاستقالة، تحت طائلة فتح الملفات.
لم يتوقع العهد ما حصل، فقد كان الوزير جبران باسيل بالكاد انهى مهرجان السيل الجارف وقلب الطاولة، ليُفاجأ بأنّ السيل الجارف انطلق في المناطق المسيحية من كسروان الى المتن والاشرفية، ليوصل رسالة واضحة للعهد، بأنّ المسيحيين لم يعودوا كما كانوا، وان لغة استعادة الحقوق، والمسيحية المشرقية، وتحالف الأقليات سقطت، وانّ حقوق المسيحيين هي في بناء دولة حقيقية تؤمّن حقوقهم البديهية في الحياة والحرية، بعيداً من لعبة استدراج الشد الطائفي.
اما في ما يتعلق بالقوى التي لم تشارك في الحكومة والتسوية، فهي فوجئت أيضاً، لأنّ الانتفاضة سبقتها، وظهّرت عجزها، بل فضحت عقم هذا الاعتراض اللفظي، الذي كان منذ العام 2016 صدر عن مجموعة من القوى والشخصيات، التي انتقلت من جدل بيزنطي حول كيفية تأسيس معارضة فاعلة، الى مراوحة قاتلة، لم تنل الا شرف التمسّك بالثوابت، لكن دون القفز الى مرتبة القدرة على البدء بمبادرة ولو متواضعة.
اما بخصوص الموقف الداخلي والعربي والدولي من انتفاضة السابع عشر من تشرين، فالاميركيون أقرب الى اللامبالاة وبالكاد أصدروا موقفاً يطلب حماية الاعتصام الشعبي، اما الفرنسيون فهم يدعمون بقاء الرئيس سعد الحريري وعدم استقالته، فيما تراقب كل من السعودية والامارات بدهشة ما يحصل في لبنان، والعين على البيئة الشيعية التي فاجأ تحرّكها الجميع، حتى انّه تجاوز الاعتراض الشيعي في العراق.
لقد فرزت الانتفاضة الكثير من المواقف، ووضعت زعامات في الاستيداع، وكرّست قيادة عنصر الشباب للشأن العام، كما اقتربت من أن تلد بديلاً من الطبقة السياسية، واذا نجحت في المرور بمرحلة مواجهة أعدائها مع كل ما يملكون من اسلحة تمكّنهم من إجهاضها، فستنتج نواة القيادات التي ستدير الشأن العام، وستدخل الى المجلس النيابي، وربما بأغلبية قادرة على تشكيل سلطة جديدة.
إنها انتفاضة بلا قيادة وقد يكون هذا سرّ مناعتها.