Site icon IMLebanon

“أناركِيّة” لبنان الكبير

 

تُوضِح الجذور الإغريقيّة لتعبير «أناركيّة» ماهيّتَه (Anarchos) بالإغريقية، أي دون سُلطة، وتعريبها «اللاسُلطويّة»، هي، دون شكّ، إسمٌ على مُسمّى، إذ تتمحور كافّة عقائدُها حول النظر للسُلطات كبِنًى ضارة وغير ضروريّة. لم يحفظ الأناركيّون، أو «الفوضويّون» باللغة السُلطويّة، مساحةً للتسامح في مجابهاتهم المستدامة مع السُلطة، ولم تراهم الأخيرة يوماً إلّا ببشاعة موجات الموت الأسود. مشاعر الشنَف بين النقيضَين متبادلة، بدءا من الإتيمولوجيا، وصولاً إلى وِفرة الكدمات المرسومة بهراوات حفظ النظام.

 

ليس للأناركيّة أيُّ توقٍ للسُلطة، تُغرِّد بذلك وحيدةً خارج كلّ أسراب النظريّات السوسيو-إقتصاديّة، وتتجلّى جديّة زُهدها بالحكم على امتداد نضالها الطويل. لم يحصل أن تجانَسَت نصوص العقائد مع تجاربها الواقعيّة بالقَدْر الذي فعلته الأناركيّة، إذ غالباً ما يُسجَن حبرها فوق مساحة الورق، فور تبوُّء السُلطة، أو تُصاب بالفُصام. لم تُسهِّل نظرة الأناركيّين المتصلِّبة لضرورة اضمحلال السُلطة توسيع مروحة صداقاتهم، حتّى داخل المعسكر المناهض للرأسماليّة، ولم يَخلُ الشبَه العقائدي بين فلسفة الفرنسيّ بيار جوزيف برودون، الأب الرسمي للأناركيّة، وبين الماركسيّة من الصدع، رغم تشاركهما كلّ منصّات المواجهة.

 

انتقد برودون المركزيّة المطلقة والاستبداديّة لمفهوم السُلطة عند كارل ماركس، التي يراها الأخير مرحلةً جوهريّةً أولى للثورة نحو الشيوعيّة، فيما تقزيمها لحدودٍ دُنيا، هي صافرة البداية للثورة عند برودون نحو رفع أغلالها كلِّيّاً عن أيدي العمّال، وتحويلهم من أُجراء لا يملكون حتّى أدواتهم، إلى أربابٍ لعملهم. كتب ماركس مطوَّلته الجَلِفة «بؤس الفلسفة» في وجه «فلسفة البؤس» لبرودون بمنازلةٍ انطلقت مع الرجلين، عظُمت مع ميخائيل باكونين، التلميذ البرودونيّ العَزوم، داخل الجمعيّة العالميّة للعمّال وغلّلتهما داخل خنادق الثورة الإسبانيّة في ثلاثينيّات القرن الماضي، حتّى خسِرا كاتالونيا وسحقهما فرانكو.

 

شكّل تعنّت الأناركيّين لمبادئ نبذ السُلطة في تجربتهم الإسبانيّة، وتوجّسهم من تسلُّط الماركسيّين، تعويذة خسارتهم أهمّ انتصاراتهم على أرض الواقع، وتعاظُم سوء سمعتهم كحالمين عاجزين عن إنجاح أيّ تجربةٍ حسّيةٍ في وجه عدوٍّ متمكِّن مثل الموناركيّة أو الرأسماليّة. كان ذلك خطأً تاريخيّاً، أعاد حبر الأناركيّة لسَباته على الورق.

 

لم يشهد لبنان الكبير أنشطةً تحرّريّةً ثوريّةً تستحقّ هدر حبر كتابتها، مع استثناءاتٍ يساريّةٍ هزيلةٍ لم تخلُ علمانيّتها من بعض الطائفيّة. وُلدت الدولة على توهُّج جمرات السيجار الفاخر لإقطاعات الثروة والدين، على طاولةٍ غير مستديرةٍ، تَرأسَها الانتداب. لا يَسقُط التحرّر وسعادة العامّة سهواً عن طاولاتٍ مشابهةٍ، إذ غالباً ما شكّلت الانتدابيّة والأديان والثروات متضادّاتٍ غير لغويّةٍ للثورات. إقتطع جُلساء الطاولة لخريطة أوليغارشيّتهم رِقاعاً ديموغرافيّةً وزراعيّةً، على غفلةِ بؤس فلّاحيها، الذين سرعان ما وزّعوا ولاءاتهم بالمجان، بين إقطاعاتٍ بألقابٍ دينيّةٍ وأخرى بألقابٍ عثمانيّة.

 

لم يشهد التاريخ على طوعيّة ارتهان عامّةٍ لجلّاديها بالقدر الذي قدّمه اللبنانيّون، ولم تنتج شرانق الولاء الطائفي والزعاماتي فيه أيّة تحوّلاتٍ للتحليق بأجنحةٍ ثوريّةٍ كالأناركيّة. بقي نادي النفوذ والثراء حصريّاً وسائغاً لأعضائه، حتّى انسلّ إليه أُمراء الحرب الأهلية، مستَلّين سواد كلاشينكوفاتٍ لم تبرد فوّهاتها بعد، فاختصروا الطريق نحو الجزء العُلوي من الهرم، أغلقوا خلفهم برشاقةٍ وانضمّوا لعائلات نبالةٍ سوداء (nobiltà nera) لا تقّل حُلكةً عن نسيبتها في البندقيّة، أواخر القرن التاسع عشر.

 

إنّها من سُخريات القدر ألّا تبلُغ رياح الأناركيّة خواطر أمّةٍ، عانت من الامتثاليّة الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة حتّى الشلل مثل أمّة الأرز، فيما ينظر أهل حُكمها، بعينٍ أناركيّةٍ، لسُلطات القوانين كبنىً ضارةً لهم وغير ضرورية. طوّرت الأوليغارشيّة الحاكمة في لبنان فلسفةً أناركيّةً غريبةً، وأسمتها الديموقراطيّة التوافقية، فحظّرت التوافق بين تنوّعات مواطنيها، لإجهاض أيّ تعاضدٍ ثوريٍّ يقلق راحتها، وطوّعت الديموقراطيّة عَبّارةً شرعيّةً لها للوصول الدوريّ إلى التسلّط.

 

لم يُخيَّل للأناركيّين أن تتفشّى فلسفتهم يوماً داخل سُلطةٍ، تُحكِم بها الأخيرة طغيانها على الحرفيّين والمزارعين والعمّال، الذين انبرت، من أجلهم، أقلام برودون وباكونين وكروبوتكين وكثُرٌ غيرهم. هاجم برودون تعاظم المِلكيّة في أيدي السُلطة، إذ يُسهِم في تعاظم مركزيّة النفوذ والثروات واستغلال عرَق العمّال، الذين يعود لهم الحقّ الطبيعي بمِلكيّة حقولهم وأدواتهم ومشاغلهم، وقال: المِلكيّة سرقة. أعطاه سوء فهم كلامه، سوء سمعةٍ مزمنٍ لم يهتّم له الثوريّ الفرنسيّ البتّة. لم تُسِء النبالة اللبنانيّة السوداء فهم برودون، إذ منعت تعاظم مركزيّة القرار والجدّيّة والنفوذ والثروات عن الجمهوريّة، وأهدت نفسها حقوقاً طبيعيّةً بملكيّة كلّ مقدّرات البلاد من مناصبَ وإداراتٍ ووزاراتٍ وكراسي الحكم، وتصرّفت برمال الشواطئ وأحرام الأنهار وصخور القمم ومنتفعات البلاد كحدائقَ خلفيّةٍ لقصورهم، حتّى أصبح العامل يحلم بلقب أجيرٍ، وأمسى تعريب (Anarchos) أقرب إلى «اللادولة» منه إلى «اللاسُلطويّة»، والجمهوريّة أقرب إلى «أناركيّة لبنان الكبير».

 

لا تلوح في أفق لبنان بوادرُ تغيريّة جدّيّة تقضّ مضاجع النظام الفوضوي المتمكّن، فالأناركيّة في غير موقعها تُنتج غير ما كتبه لها آباؤها. لم يهتزّ الركود الثوري المزمن للمجتمع اللبناني منذ زمن، إلّا قليلاً باحتجاجات ٢٠١٥ في شوارع بيروت. إتّسم الحراك بقليلٍ من الروح الأناركيّة، كانت كفيلةً بإخراج الأوليغارشيّين عن رفاهيّتهم، لتعبئة هراوات حفظ النظام ومخالبَ أخرى أكثر خُبثاً. يبدو جليّاً أنّ الوقت قد حان، ليبادر المزارعون والحرفيّون والعمّال وكلّ المرهقين بسحب الأناركيّة من ترسانة أمراء الطوائف والحرب والثروات، وتجنيدها في موقعها الطبيعي إلى جانبهم في مواجهة النبالة السوداء، حتّى انحلالها بين صفوف العامّة.

 

قليلٌ من الأناركيّة تنغِّص قلب الطُغيان.